لميس أندوني
بغضّ النظر عن التباينات بين
واشنطن وتل أبيب، ما نشهده هو حرب مشتركة ضد لبنان، فالاختلافات المُعلَنة
تكتيكية، إذ يخشى البيت الأبيض "تهوّر" رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو، بتصعيد أوسع يجرّ المنطقةَ إلى حربٍ واسعةٍ ومفتوحةٍ تُهدّد المصالح
الاستراتيجية لأميركا، ومستقبل إسرائيل نفسها. الأكثر أهميةً، أنّ أميركا شريكةٌ
في الحرب، أكان بدعمها العسكري والاستخباراتي للجيش الصهيوني، أو بدفاعها عن
العدوان الإسرائيلي، وبتوظيفها الإرهاب الإسرائيلي ضدّ المدن والقرى اللبنانية،
لفرض استسلامٍ لشروطها، التي حاول مبعوثها عاموس هوكشتاين تحقيقه خلال أشهر من
المفاوضات في لبنان.
ليس مهمة مبعوث شؤون الطاقة
هوكشتاين تقنيّةً، وإنما كانت (وما تزال) سياسيةً أمنيةً بامتياز. فإعادة ترسيم
الحدود بين إسرائيل ولبنان، ومنح إسرائيل حوضَ كاريش للغاز الطبيعي، وفقاً
لاتفاقيةٍ وافقت عليها الحكومة اللبنانية (للأسف)، لم تكن إلّا تمهيداً للهدف
الأكبر من انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وبالتالي جعل المدن والقرى جنوب
الليطاني "منطقةً عازلةً"، وفصلها عملياً عن الدولة اللبنانية، بما يخدم
الاستراتيجية الأميركية في تفكيك حزب الله، وتقويض النفوذ الإيراني، وتوسيع حلقة
التطبيع العربي الإسرائيلي. أيّ أنّ أهداف هوكشتاين (المجاهر في إخلاصه لإسرائيل،
على حسابه في منصّة إكس)، لا تختلف عن أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان، بما
يخدم الاستراتيجية الأميركية في لبنان والمنطقة. فتصفية القضية الفلسطينية تتطلّب
"استئصال" أيَّ مجموعة مقاومة، كما كان الهدف من الحرب الإسرائيلية على
لبنان في عام 1982، من أجل حرمان منظّمة التحرير الفلسطينية من نقطة انطلاقة
للحركة التحرّرية الفلسطينية من أيّ نقطة قريبة من الدولة الصهيونية. ولكن ما طرأ
من تغيير أنّ حزب الله مدعوم بشكل مباشر من إيران، وما توفّره له من أسلحة لم يحلم
المقاومون الفلسطينيون بالحصول على مثلها.
لأميركا حالياً هدف آخر، لم
يكن واضحاً في عام 1982؛ فوضع يد إسرائيل على أحواض الغاز الطبيعي في المنطقة
جعلها دولةً رئيسيةً مصدّرةً للغاز الطبيعي. وابتدأ تنفيذ الخطّة بالضغط الأميركي
على الأردن، وبتوقيع الأخير اتفاق مرور خطّ الغاز الإسرائيلي (المنهوب من
الفلسطينيين) عبر أراضيه. فواشنطن لا ترى دول المنطقة إلّا أدواتٍ لتنفيذ
مشاريعها، فلا احترام لسيادة ولحقوق الشعوب في الحفاظ على ثرواتها الطبيعية،
واستراتيجيتها في خفض اعتماد أوروبا على الغاز الروسي والإيراني أدخلت بُعداً
جديداً في دعم العدوان الإسرائيلي على لبنان. ولذلك نرى واشنطن تتغاضى عن ترويع
وقتل المدنيين بالمئات، ونخشى أن يصل العدد إلى الآلاف. فالأهداف الأميركية
والإسرائيلية تتطلّب تهجير قسم من أهل الجنوب اللبناني، ليس فقط لضرب القاعدة
الشعبية لحزب الله، بل لفرض منطقةٍ عازلةٍ، وتنازل لبنان عن حصّة إضافية ممّا
تحويه أرضه وبحره من غاز طبيعي، وأيّ مصادر أخرى. أي إنّ هناك عملية نهب لا تختلف
عن العصر الكولنيالي، يوظّف احتلالاً مباشراً وغير مباشر لدولة شاء حظّها أن تكون على
تماسٍّ مباشر بأرض فلسطين التاريخية.
يتشابه ما تفعله إسرائيل،
بموافقة أميركية، مع ما يمارسه المستوطنون في الضفّة الغربية، وإنْ من منطلقات
مختلفة، فتفريغ الأرض الفلسطينية هو جزء من المخطّط الصهيوني المُعلَن قديماً،
والمتجدّد حديثاً، فلا يمكن انتصار المشروع الكولينالي العنصري الاستيطاني من دون تهجير
الفلسطينيين، ومحاولة إبادتهم، كما يحدث في غزّة. الفرق هنا أنّه لا توجد نيّة
مُعلَنة إسرائيلياً لنقل مستوطنين يهود وزرعهم في جنوب لبنان، فعلى الأقلّ هذا لا
يبدو مقبولاً أميركياً. لكنّ عنجهية واشنطن، إضافةً إلى احتمال فوز الرئيس السابق
دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يُبقيان
الاحتمالات كلّها مفتوحةً.
إعلان إسرائيل بصراحة عن
أملها في أن تُؤدّي الضربات القوية، التي هزّت وطاولت عدداً كبيراً من قيادات حزب
الله، إلى "فك الاشتباك" بين غزّة وساحة لبنان، يتوافق تماماً مع
السياسة الأميركية. فمحاولات إسرائيل كلّها لإضعاف حزب الله باءت بالفشل، إلى أن
جاءت عملية الاغتيالات غير المسبوقة من ناحية نطاقها وتوظيفها لأدوات التكنولوجيا
الحديثة، فبدا أنّ الأمر أصبح قريب المنال، ولا تمانع أميركا في ذلك، فلديها سجلّ
دموي حافل من اغتيال رؤساء دول ومناضلين من معارضيها، وكذلك إسرائيل التي دأبت
(ومستمرّة) على اغتيالات قيادات ومثقّفين فلسطينيين، وسيلةً لإنهاء نضال التحرّر
الفلسطيني.
المهم أنّ محاولة الفصل بين
الجبهات والساحات كانت منذ بدء العدوان على غزّة في 7 أكتوبر (2023)، ونجاح حزب
الله في إشغال الجبهة الشمالية، ممّا أدى إلى ترحيل مستوطني تلك المنطقة، بالرغم
من النقد شديد اللهجة من كثيرين توقّعوا من الحزب هجوماً أكبر لإنقاذ غزّة وأهلها.
النقد كان مفهوماً، ولكنّه غير واقعي؛ ليس لأنّ إيران (باستثناء دعم وتسليح حركتي
حماس والجهاد الإسلامي، إضافة إلى الحوثيين وحزب الله) مُستعدَّة لأن تدخل في حرب
مباشرة، فقط، ولكن أيضاً لأنّ حزب الله كان متردّداً في إدخال لبنان حرباً مع
إسرائيل. ولكن هذا، كما ثبت، هو ما تريده إسرائيل التي لا تفهم غير لغة الحرب في
فرض هيمنتها، وفي هذا تتقاطع مع أميركا التي تؤمن بالقوة العسكرية الساحقة
والإرهاب لتحقيق انتصاراتها.
في المنظور الأميركي، أيّ
خطوة، ولو كانت مميتةً، تخدم إزالة العوائق السياسية والمعنوية للتطبيع مع
إسرائيل. وعليه؛ فالعدوان الإسرائيلي يخدم حلمها في بعث رسالة ترهيب إلى الشعوب
العربية بأن تبقى بعيدةً عن مؤازرة الشعب الفلسطيني، وألّا تدفع أثماناً باهظةً،
كما نرى في لبنان، أي ترسيخ مفهوم "ليس للشعوب علاقة بالقضية
الفلسطينية"، وهو ما تروّجه الأحزاب الانعزالية في لبنان والتيّارات الانعزالية
في العالم العربي، ونرى ذلك يستجدّ أيضاً في تغطية ولغة بعض الفضائيات، خاصة قناة
العربية، التي تقود تسويق ثقافة الاستسلام والخنوع.
هل ستنجح أميركا في لبنان؟...
ذلك يعتمد على عدة عوامل، منها الموقف الإيراني، إذ لا يبدو أن طهران تسعى إلى
دخول حرب عسكرية مع تل أبيب، ولكن إلى تفاهم مع واشنطن لتحقيق شروط أفضل للاتفاق
على برنامجها النووي. كلّ الاحتمالات واردة، لكنّها ستكون خطوة تنتقص من نفوذها
ومكانتها في المنطقة. نفهم أنّ إيران ليست معنية بتحرير فلسطين، ولكن موقفها
الداعم للقضية هو جزء من قوتها.
طبعاً لا أمل في الأنظمة
العربية، وليس مطلوباً أن يدفع الشعب اللبناني ثمن تواطؤ النظام العربي، لكنّ هناك
حدودا لما تستطيع إسرائيل تحقيقه من دون الإضرار بمستقبلها في المنطقة، وهو ما
يُحذّر منه محلّلون إسرائيليون وصهاينة غربيون، رأوا أنّ إسرائيل أقدمت على مغامرة
تقامر معها بمستقبلها، لكن هذه تحذيرات لن يكون لها مفعول حقيقي إذا ساندت دولٌ
عربيةٌ علناً إسرائيل، كما نخشى، وهذا ما تريده أميركا.
المصدر : العربي الجديد
الآراء الواردة في المقال
تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".