مهنا الحبيل
تزداد التغطيات العربية الخليجية والدولية
للاحتجاجات الشعبية في إيران، ويدور الجدل في تقييم المشهد بين التوجيه السياسي للتغطيات
التي تضخّها هذه المحطات والواقع الشعبي في إيران. والحقيقة التي يستطيع أن يدركها
المراقب أنّ هناك صعوداً في هذه الاحتجاجات التي جدّدها مقتل الناشطة الكردية، مهسا
أميني، ومن سقط بعدها في حراك الثوار المدنيين، وهو يتوسّع شعبياً، وقوته حاضرة في
الشارع العام، غير أنّ ذلك كله لا يُحدّد ساعة صفر، وإعلان سقوط النظام، فالجمهورية
الدينية تمرّست في مواجهة دورات التصعيد من المعارضة الشعبية، في مواسم عدّة، وواصلت
ضخّ مليشياتها إلى المناطق العربية، بل وعزّزت نفوذها، في العراق وسورية واليمن ولبنان.
ورغم مستوى التدخل الإيراني وتوحشه، فإنّ ذلك ليس بالضرورة مؤشّراً كافياً لقوة النظام.
وطهران اليوم تتمتع بموقع أفضل في دول الخليج العربي، فهناك علاقاتٌ مباشرة قوية، مع
أعضاء داخل مجلس التعاون، بسبب فقدان الثقة بعد الأزمة الخليجية والذي أصبح واقعاً
في التفكير الاستراتيجي، رغم المصالحة.
كما أنّ مفاوضات طهران مع الرياض تتقدّم،
بعد تسوياتها الأخيرة مع أبوظبي. ومع ذلك، لا يكفي هذا لكي تَعتبر طهران موقع أقدامها
قوياً، وهي لا تزال تدير صراعاً إعلامياً وثقافياً معلناً وليس تحت الطاولة فقط، مع
السعوديين. يلفت النظر هنا أنّ الرياض توجّهت، أخيراً، إلى تغيير قواعد اللعبة، فهي
باتت تعتمد طريقة طهران في مدّ الأيادي، وبقاء فكرة المواجهة مع الخصم (الصديق) مشتعلة.
وبالطبع، كانت خسارة السعودية في حرب اليمن نقطة مركزية لصالح طهران.
وهذه الجسور التي يُنتظر أن تُختتم
بعودة العلاقات وفتح السفارات، بين طهران والرياض، تحمل وراءها توظيفاً للصراع بالوكالة،
ولطهران سجلٌّ قديم فيه، وهي اليوم تستثمر الصراع الداخلي السياسي في البحرين، وفشل
الدولة في معالجة التوترات الوطنية بعد الانتفاضة الشيعية في 2010، والوضع يتردّى في
البحرين حتى مع الحالة السنية، وبالذات الأصوات التي تدعو إلى الإصلاح. وهنا يبرز معنى
مشروع الشيخ عيسى قاسم، المتوغل في الهوية الطائفية، وتقديم ذاته كما لو أنه ولي فقيه
يشرف على الثورة القادمة في البحرين، وهو توتر طائفي غير محمود، يتحمّله الحكم، والجناح
المتطرّف في المعارضة الشيعية. وهذا بالطبع ينقل التوتر إلى الجانب السعودي الذي لم
يستطع وقف طهران لا في سورية ولا في لبنان، فضلاً عن العراق، ثم دخل في أزمة علاقات
شعبية، مع هذه الدول، والخلاصة هنا أنّ هناك استمراراً للحرب الباردة، في الخليج العربي،
تُضفي على احتجاجات إيران تضخيماً قد لا يتناسب مع الواقع.
لكنّ هذا لا يغيّر من خطورة الوضع في
إيران المركز ولا الأقاليم، فالمواجهة في كردستان إيران وإقليم الأحواز وفي بلوشستان
تُسعّر مشاعر الغبن القومي، وهو صراعٌ قومي أكثر منه طائفي، وإن بقيت هناك سياسات قمعية
تعتمد التفوق المذهبي الذي يهيمن على العقل السياسي والعقائدي في إيران، فالغالبية
الساحقة من سكان الأحواز هم من العرب الشيعة، الذين يعانون، منذ تواطؤ الإنكليز، ضد
إمارتهم، تحت قيادة الشيخ خزعل الكعبي، والذي انتهى باحتلال الإقليم وضمّه لإيران.
ومن ذلك الحين، لم تقدّم طهران أي مبادرة، تخفّف عن الأحوازيين معاناتهم وتمنحهم الحكم
الذاتي. أما البلوش فلهم قضية مماثلة مع باكستان أيضاً. وبالجملة، نحن نعاني في الشرق
من مظالم حقيقية تعيشها شعوب المنطقة المختلفة عن الغالبية، أو التي ضُمّت أقاليمها
لها، وتُستثمر في إيقاد الصراعات منذ إرث الاستعمار، هذا فضلاً عن الروح الطائفية التي
اشتعلت بعد الثورة الإيرانية، وما قابلها من تطرّف سنّي من بعض التيارات المحسوبة على
دول المنطقة.
ويساعد هذا الانقسام المتوزّع في المعارضة
الإيرانية النظام أيضاً على تحقيق دوراتٍ متتالية لضرب المعارضين، واستيعاب حراكهم
لصالح المركز، وهناك تضامنٌ على الأرض تعكسه "السوشيال ميديا"، بين القوتين،
الفارسية والأذرية، التي تمثّل مركزية الدولة الديمغرافية في إيران، وبين أهالي الأقاليم
المهمّشة. لكن لا سياق تحالفٍ سياسي يضمن فترة انتقالية بعد سقوط النظام، ولا توجد
أرضية يمكن أن نعتبرها فرصة لعملية إصلاح ضخمة، لتحوّل سلمي في إيران. ولذلك، المشهد
الأخير في المواجهة إن استمر صعود الثوار يتّجه إلى انقلاب دموي أو سياسي راديكالي.
ولقد تابعتُ أحد أبرز الحسابات المعارضة،
ذات الشعبية والتفاعل الكبير من الإيرانيين في "تويتر" وهو ضابط سابق في
الجيش الإيراني، كما يبدو، وحجم التفاعل معه كبير. ويبرز في خطابه، وتصعيد مراحله،
تركيزه على خطّة ميدانية متدحرجة، تنتهي بتضييق الحلقة على النظام في طهران، والانقضاض
عليه ساعة الصفر، فهل هناك كتلة سياسية من القومية الفارسية تقف وراء هذه الحسابات،
وهل هناك حكومة ظلٍّ ستقفز إلى المشهد، بعد إسقاط "الجمهورية الإسلامية"،
وهم يطلقون هذا العنوان، كعزيمة لديهم لإعادة إيران إلى حكم مدني ديمقراطي، يقوده الفرس
قطعاً.
ولاحظتُ هنا بعد متابعة سنوات للمعارضة
القومية في الأحواز وبلوشستان، وحتى منظمة مجاهدي خلق، أنّ هذه القوى انفتحت على الدعم
الخليجي، وعزّزت الصورة النمطية التي تقودها بعض الاستخبارات الخليجية، وهو ما أضعف
قوّتها ومتانتها السياسية، فيما هذا الحراك الفارسي المتطوّر الجديد، قد يكون له دعم
دولي سرّي، لكنّه يصرّ على عزل ثورته عن استثمار بقية الأطراف، وقيادة جموع الشباب،
نحو الهدف الموحّد المركزي.
وحتى الآن، لم يتعرّض هذا الخط لانكشاف،
ولا ندري إذا كانت المعارضة الإصلاحية الخضراء داعمة له، أو أنّها فقدت القدرة على
توجيه الشارع، وقد تنجح جمهورية ولي الفقيه في تفريق هذه الكتلة وإحباط آمالها، كما
فعلت مع غيرها، وتلقي كرة النار إلى الخليج، أو يستمرّ هذا الزحف في صعوده، وقد يفاجئ
العالم، بلحظة فارقة في تاريخ إيران، يعلن فيها البيان رقم واحد.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".