بشير البكر
كان يستحيل على السودان أن يحقّق معجزة،
وينجو من أعراض الانهيار العربي، ويتمكّن من بناء تجربة ديمقراطية ناجحة، فلديه ما
يكفي من القواسم المشتركة مع الأشقّاء العرب والجيران الأفارقة، التي تؤهله ليحتل مقعدا
في نادي الفاشلين، وخصوصا تدخّل الجيش المباشر في الحياة السياسية. وقد وعى هذه الحقيقة،
مبكّرا، المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي تسلّم السلطة عام 1985 على أثر الانتفاضة
الشعبية التي أطاحت الدكتاتور جعفر نميري. وأراد ذلك العسكري النزيه أن يقطع الطريق
نهائيا على حكم العسكر، فسلّم السلطة إلى حكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي عام
1986، وذهب نحو التقاعد، ولكن هدفه لم يتحقّق، لأن العسكر ما لبثوا أن انقلبوا على
الحكم المدني بعد عامين، بقيادة الفريق عمر البشير الذي تحالف مع الإسلاميين بقيادة
حسن الترابي، لترجع البلاد نحو الحكم الدكتاتوري، الذي لم ينته عام 2019 عندما حصلت
الثورة الشعبية ضد البشير، بل استمرّ، ولم يسلم العسكر السلطة للمدنيين، وماطلوا منذ
ذلك الوقت تحت حجج واهية، لكنهم في حقيقة الأمر لم يتفقوا على تقاسم الغنيمة، وبقي
البلد بين شدّ وجذب بين قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان المدعوم من إسرائيل وقوى
الثورة المضادّة وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) حليف قوات فاغنر
الروسية.
يعبّر طلب الولايات المتحدة من إسرائيل
التدخّل لدى طرفي الأزمة، من أجل وقف القتال، عن مفارقة معيبة، ويعكس مدى غياب العرب
دولا ومؤسسات عن بلد عضو في جامعة الدول العربية. وهذا ليس جديدا، حيث اقتصرت التدخّلات
العربية منذ إطاحة البشير على دعم العسكر في إطار الثورة المضادّة. ولم يختلف الأمر
عما حصل تجاه بلدان عربية أخرى، شهدت أوضاعا مشابهة خلال العقد الأخير، وقد كان في
وسع بعض العرب فعل الكثير للسودان، وخصوصا مصر التي تعتبر هذا البلد امتدادا لأمنها
القومي، ولكنها غابت منذ الحراك الشعبي ضد البشير، وهذا دليل ضعفٍ ترجم نفسه في بقية
البلدان العربية، مثل ليبيا وسورية واليمن. ويعدّ عدم تحرّك مصر لوقف القتال في السودان
أحد مظاهر العجز الذي تعاني منه عربيا وأفريقيا ودوليا. وهذا مفروض عليها من إسرائيل
وقيادة الثورة المضادّة، لأن تحجيم القاهرة يطلق يد هؤلاء للتلاعب بمصير هذه البلدان،
وما يجري في السودان، وقبله في ليبيا، صورة عما ينتظر المنطقة من نزاعات وحروب أهلية.
ليس من الواضح حجم المساعدات، التي
يتلقاها طرفا النزاع في السودان. ومن غير المستبعد أن يحصل كل منهما على إمداداتٍ بالأسلحة،
سواء إسرائيل وقوى الثورة المضادّة أو قوات فاغنر. ويبدو أن الدعم في حال حصوله لن
يكون بهدف حسم الموقف الميداني لصالح أحدهما، ومن شأن هذا الأمر أن يطيل أمد الحرب،
ويهدّد بتوسيع رقعتها في بلدٍ، واسع المساحة وغنيّ بالتناقضات والألغام. ومن المبكّر
الجزم بما تضمره الأطراف الداعمة لجهة إرسال قوات لتسند البرهان ضد حميدتي وبالعكس.
وعلى الأرجح، ستقف الأطراف مع الذي يبدي تقدما ميدانيا لحسم المعركة لصالحه. ويشكّل
قرار بعض الدول، وخصوصا الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، إجلاء رعاياها وبعثاتها
الدبلوماسية، مؤشّرا سلبيا على أن التهدئة مستبعدة في الوقت القريب، والتوصل إلى وقف
إطلاق النار ليس واردا في المدى المنظور. وبذلك سيتواصل القتال بين الطرفين، إلا أن
الدول الكبرى ليست عاجزة عن فرض وقف إطلاق نار، ولها مآرب في تصفية أحد المعسكريْن
الآخر. ولكن حسابات الحروب الأهلية ليست دقيقة في أغلب الأحيان، وهذا ما عرفته كل من
ليبيا وسورية واليمن، ومن غير المستبعد أن تفلت في نهاية المطاف من التقسيم.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء
الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".