مهنا الحبيل
تحاول قراءاتٌ مسيحيةٌ مهمةٌ في لبنان
اليوم أن تراجع موقف المسيحية الوطنية، والذي يندرج تحت واقع الطائفة ومستقبلها. وقلنا
الطائفة والوطنية، لأن هناك مصطلحاً آخر في الاتجاه المعاكس، فلبنان، وإن كانت لعبة
الكراسي بين الطوائف أحد أسباب محنته، غير أن استقلاله ولد بحضورها، وساهم الانحطاط
العثماني ودوره التاريخي في مأزق العلاقات، واستدعاء الدول الاستعمارية وبالذات فرنسا،
في فرض هذه المعادلة. وعليه، تكاد العودة إلى جذور أزمة المواطنة الاجتماعية الموحدة،
تغيب اليوم.
وكان التفكير الذي يشغل القوى الوطنية
قديماً هو القدرة على تحويل نظام الطوائف إلى معادلة وطنية، تَخلُق من توازن القلق
والتوتر المذهبي، قاعدة سلم أهلي تتوافق عليها هذه القوى، التي لا يمكن أن تستدعي اليوم
ذات الموازين أو التقسيمات التي سبقت الحرب الأهلية، أو تزامنت معها، خصوصاً أنّ الانقسام
في حينها كان بحضور الطرف الفلسطيني الذي حيّد بعدها.
وهو جدلٌ عاصف كانت ضحيته المخيمات
الفلسطينية، واستثمر في مساحة الضغط الموسمي على لبنان، وفي حين كان هناك موقف تناقض
مفترض، بين التيار العوني وحزب الله الممثل للمشروع الإيراني، من المقاومة الفلسطينية،
فإن هذا التناقض لم يمنع الصفقة السياسية الاجتماعية بينهما، بسبب أن مجمل الصراع الإيراني
مع تل أبيب، كان ولا يزال يخضع لمواسم الضغط النسبية، ولم يكن المشروع الإيراني، وظلّهُ
الضخم في دمشق، صراعاً وجودياً مطلقاً لأجل فلسطين، فتفرّقت القوى وضاع الموقف الوطني
بناء على هذا السوق، الذي كان طرفه الآخر النظام الرسمي العربي، خصوصاً بعض أطراف الخليج،
فأُسقط الميدان الوطني الذي كان يحتاج، بالضرورة، إلى أرضية متماسكة ينظّم بها لبنانَ
الجمهورية الثالثة ذاته، وينقل شعبه من توازن الطوائف إلى مواطنة الحقوق والمصالحة
الاجتماعية، ويحافظ على بل يعزّز موقفه المستقل خارج الإرادة الصهيونية، من دون أن
يُخضع أرضه لمواسم ابتزاز الإيرانيين، وهو ما وقع خلافه.
ولم يكن لميلاد ذلك الميدان الوطني
أن يتحقّق من دون مسطرة زعماء، تسبقها منصّات خطابٍ فكري وثقافي وطني، يُقرّب المسافات،
وما أنجزه رئيس الحكومة رفيق الحريري حقّق استقراراً اجتماعياً اقتصادياً، ساعد البلد
في منظومة المعيشة والعائد السياحي، لكنه كان يفتقد قوة الخطاب الأيديولوجي الوطني
المقابل للكتلة الطائفية المتمكّنة التي كانت تفجرها إيران دورياً، فلا شخصيته، ولا
محاولات نجله سعد لاستئناف مهمته، استطاعتا أن تغيّرا قواعد الهيمنة الإيرانية. فالكتلة
الوطنية المقابلة لجزر التأجير الطائفية من باريس أو طهران، والسوق العربي، كانت تفتقد
روح كفاح ونضال، تحدّد مسلماتها، وتخرج من بوصلة الصراع الوظيفي، ولا يمكن عزل هذه
القوة الفكرية عن تاريخ لبنان، حيثُ يمثل سُنتَّهُ الجامع الوطني لاحتضان الطوائف،
من خلال التاريخ الاجتماعي المتجاوز للمذهب، فطبيعة الراعي الخليجي افتقاده، في أصله،
هذه الروح والإيمان بها. وبالتالي، كان يدعم فكرة تجميع الأطراف الأخرى في مشروع شركة
مساهمة، أكثر منه قوةً وطنية أيديولوجيتها العروبة والمساواة الوطنية، ومشروعها الحقوق
والاستقلال. فعَجَزَ تيار المستقبل عن إدارة هذا التحوّل لطبيعته التأسيسية، ولظروف
لعبة الأمم الكبرى، وتقدّم النفوذ الإيراني، لكن الحريري الأب كان يمثل خطراً على مساحة
طهران، وكانت سياستها في العراق ولبنان، المبادرة لتصفية أي طرفٍ يبدأ بالتأثير على
نفوذها، حتى لو لم يصل إلى موقع التنافس الذي يُقصيها، فقرّرت قتله. حينها برز حجم
الفوضى والضعف في بقية حلفاء سعد الحريري، الذي خُذل من الرياض ومن شركائه معاً.
وحين نستعرض أسماء الشخصيات المسيحية
في الصعيد الوطني المشترك، أو حتى في الرموز التي ظهرت باسم الطائفة، وتورّطت في نزعتها
وفي جنايتها، فإن أحداً لم يكن ليمثّل نموذج الفوضى والصبيانية لدى الرئيس ميشال عون،
فحتى ختام رئاسته، كان أبعد ما يكون عن الرئيس الوطني الموحِّد شعبه، وظل أيقونة مريضة
تشحن نرجسيّتها الغبية والحمقاء أحياناً، بتلك الذات المشحونة بنفوذها، ونفوذ أسرتها
الخاصة، والتي لم تحقّق صالحاً استراتيجيا لمسيحيي لبنان، فضلاً عن لبنان الوطن. ولذلك
كان العماد عون، بالفعل، بيضة القبّان التاريخية، للمشروع الإيراني، فيكفي أن تسقي
طهران بأداتها المباشرة في حزب الله، هذا الطموح والنزق الذي لا ينتهي، لكي يساعدها
في تعزيز قيام لبنان الضاحية، لا لبنان الجمهورية، وأضحى ذلك التحالف شركة مساهمة أيضاً،
لكن الذراع الأيديولوجية التي تحمي الشركة أقوى بمراحل من مساهمة تيار المستقبل.
كان هناك عجز شامل في ميلاد روحٍ وطنية
جامعة فوق الطوائف، ولكنها تفهمها وتعيش قلقها، فجدول الاغتيالات التاريخي الذي عصف
بلبنان عبر لعبة الأمم أو أيدي الصهاينة، أو المنظومة العربية الحمقاء، ثم سلاح ايران
المطلق في دمشق وفي الضاحية أضعف هذا الأمل. وكان المشهد يحتاج لشخصية تبعث خطاباً
فكرياً مختلفاً. وفي البداية، لم يكن أحمد الأسير في صورة الشيخ السلفي مناسباً للتقدّم
للشارع السني، مع أن حركة البروز الاجتماعي منذ موسى الصدر، وحتى أمناء حزب الله، نمت
تحت الغطاء الديني، وهو غطاءٌ لا يمنع من مساهمة رجل الدين في المشروع الوطني الجامع،
لكن الأرضية السلفية التي برزت في خلفية الأسير استُثمرت ضدّه، ليس لكونه سلفياً بالضرورة،
لكن لكون هذا المشروع يحتاج أن يؤسَّس له من خلال فكر النهضة ومنظومة الوعي الإسلامي
التنويري في قضايا الإنسان والأوطان، من ظاهرة مالك بن نبي حتى فلسفة علي عزت بيغوفيتش.
لكنّ صفاء الرجل وخطابه الوطني الاجتماعي بدأ يصل إلى قلوب المحيط السني ثم المسيحي،
والشيعي الآخر المعذّب في ضاحية إيران، وكانت المهمّة تحتاج إلى جيل يؤسّس لهذه المرحلة
التي ستواجه قطّاع طرق كُثراً، وتوافقاً إسرائيلياً إيرانياً، يرفضُ بروز أي شخصية
تخرق مواسم السوق الإقليمي الدولي الذي يلعب فيه عملاؤهم، وكان الأسير يهدّد قواعد
هذه اللعبة، فقرّروا خطفه وربما قتله!
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".