ليلة القبض على نتنياهو
أيار 28, 2024

عيسى الشعيبي

بين سلسلة طويلة من التوابع الارتدادية المتواصلة، الناجمة عن زلزال "7 أكتوبر"، وقعت في الأسبوع الماضي ثلاث هزّات أخرى بالغة الشدّة، تكافئ كلُّ واحدة منها زلزالاً متوسّط الدرجة، وفق مقياس ريختر السياسي الافتراضي. أُولاها، طلب المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مُذكّرات إلقاء القبض على الظنينَين نتنياهو ووزير أمنه غالانت. وثانيتها، اعتراف ثلاث دول أوروبية وازنة بدولة فلسطين. أمّا ثالثتها، فقرار محكمة العدل الدولية وقف حرب الإبادة الجماعية على رفح ومحيطها.

وفيما تستحقّ كلّ واحدة من هذه الوقائع الزلزالية تناولاً خاصّاً، تبدو مُذكّرة إلقاء القبض على نتنياهو أكثر هذه الوقائع أهمّية، نظراً إلى فحواها ومغزاها ودلالاتها الرمزية، ناهيك عن شدّة دويّها، وفيض تداعياتها، على راهن الدولة العبرية ومستقبلها، وهو ما يوجب إعطاء الأولوية الأولى لهذه السابقة، غير المسبوقة في سجلّ الصراع المديد، من دون التقليل من وزن كلّ من الاعترافات الأوروبية، وقرار "العدل الدولية"، إذ شكّل الاتهام الجنائي المُشخّص بالاسم واللقب، المسنود بالأدلة القاطعة، نقطةً نوعيةً فارقة، وكوّن أرضية سياسية جديدة، وفتح، في الوقت ذاته، مساراً واسعاً وفعّالاً لمواصلة الاشتباك والهجوم، في فضاء قانوني سبق أن شكّك بعضهم في جدواه، وبالغ في استصغار شأنه.

إذ بعد طول انتظار مُملّ، وترقّب مشوب بالشكّ، وقف المُدّعي العام لـ"الجنائية الدولية" كريم خان، بكامل عدّته القانونية، وقال برباطة جأش مفاجئة، وبنبرة صارمة، بدت قنبلةً متفجّرةً من العيار الثقيل، إنّ كلاً من المرجع السياسي الأول (نتنياهو) والمسؤول العسكري الأعلى (غالانت) في دولة الاحتلال، مطلوبان للقضاء الدولي بتهمة ارتكاب جرائم حرب موثّقة بالصوت والصورة، وجريمة ضدّ الإنسانية، الأمر الذي دوّت معه صافرات الإنذار في تل أبيب، مُعلنة بدء نهاية زمن الإفلات من العقاب، والدلال، والمنع من المساءلة.

ليس من المبالغة القول إنّ تلك الليلة الهولندية الرائقة، كانت ليلة القبض على المُتهم نتنياهو، ليس لأنّنا نُحبّ أن نشاهد "الملك" عارياً ومقبوضاً عليه، وأن نرى الساحر وقد انقلب عليه سحره (ونحن نُحبّ ذلك حقّاً)، وإنّما لأنّ ردّة فعل المُتغطرس الهستيرية الأولى، وانفعالاته التلقائية المُبكّرة، شفّت عن حسّ بالإهانة الشخصية، وعن شعور ساحق بالحصار والمطاردة، وهلعٍ مثقلٍ بهاجس الحبس والنبذ قبل بدء المحاكمة، إذ أتت ردّة فعل نتنياهو، حسب هيئة تحرير صحيفة هآرتس، على مُذكّرة الاعتقال "ردّ مُجرمٍ اُلقي القبض عليه، فهدّد المدعي العام: لست أنا من ينبغي أن يقلق، على كريم خان أن يقلق على نفسه وعلى محكمته".

واحسب أنّ مرّد هذا الهلع، الذي طفح حينها على وجه نتنياهو، وفاض على لسانه البذيء، قد عزّز الانطباع المثير عن المُكابر الكذّاب رقم واحد، المقبوض عليه افتراضياً، المطارد قانونياً وسياسياً وأخلاقياً، وهو من كان يرى نفسه ندّاً لتشرشل، ونابليون، كما أحسب أنّ غضب هذا الطاووس أتى من مَصدرَين مُنفصلَين: نزوله مُهاناً عن منصّة الشعور بحسّ العظمة، التي استبدّت به طويلاً، وعقد كريم خان مقارنةً مُهينةً له، وغير مقبولة منه، بينه وبين من كان يراهم أناساً من عرق همجي وضيع، أو قل طينة إثنية أدنى، الأمر الذي أثقل عليه بشدّة، وضاعف حسّه بالظلم والدونية.

فاقم من شعور نتنياهو بوطأة الحصار والحرج وعار المطاردة، بعد طلب إلقاء القبض عليه دولياً، أنّه بات رهين المحبسَين، ومُطوّقاً بقيدَين حديديَّين اثنَين: الأول، تشكّل من أربع تهم جنائية ثقيلة مُعلّقة على صدره، ناهيك عن وزر إخفاقات "7 أكتوبر"، والثاني، لوّح به كريم خان، ومن خلفه 124 دولة ملتزمة بميثاق روما الأساسي، وأنذره بالجلب مخفوراً إلى القفص الباذخ في لاهاي، الأمر الذي جعل الظنين في وضع المقبوض عليه سلفاً، مجرم حرب مُتربّعاً على رأس دولة مارقة معزولة منبوذة مرذولة، تنزف بلا توقّف، وتفقد حصانتها وشرعيتها.

بكلام آخر، ليس نتنياهو وغالانت المُتّهمَين الوحيدَين المقبوض عليهما دولياً، غداً أو بعد غدٍ، وليسا هما المُعرّضان من دون غيرهما للمحاكمة والقصاص والمساءلة، وإنّما دولة الاحتلال، بقضّها وقضيضها، هي المطلوبة للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل والتاريخ والرأي العام الدولي، وهي التي وضعت نفسها بنفسها في مسار مقاطعة، وضغط وعقوبات ذات أثر تراكمي، لا تستطيع العيش معها، فلا هي دولة عظمى مثل روسيا أو كوريا الشمالية المتدثّرة بقنبلتها النووية، ولا حتَّى دولة طبيعية مثل إيران، تتجلّد وتنجو بنفسها.

المصدر: العربي الجديد.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".