إياد الدليمي
كتبتُ، في العام 2010 وربما قبله بقليل، مقالا في صحيفة عربية
بعنوان "فساد اسمُه العراق"، عن الفساد الذي بدأ يأكل جسد الدولة العراقية.
يومها رد السفير العراقي في الدولة العربية على المقال برسالة طويلة، انتقد فيها السماح
أصلا بنشر مقال كهذا يشوه صورة العراق، ولا يعطي فكرة للقارئ العربي عن طبيعة العراق
الديمقراطي الجديد، مع كثير من الهمز واللمز بحقّ كاتب المقال الذي تنكر لعراقيّته،
مع وجبة خفيفة من أوصاف الخيانة والعمالة التي جادت بها قريحة السفير.
أسوق هذا الحادث للتعريف بقِدم الفساد في العراق، وللتذكير
بأن هذا الفساد الذي كان مشخّصاً لم يكن خافيا على أحد، اللهم إلا الطبقة السياسية
التي كانت تحكُم وما زالت تحكُم، وهي الوحيدة التي لا ترى هذا الفساد وتُكذب، في كل
مرة، تقارير منظمة الشفافية العالمية والمنظمات الأخرى التي تتحدّث عن غول الفساد في
العراق.
في خطابه أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، دعا
رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني المجتمع الدولي للتعاون مع العراق من أجل
مكافحة الفساد واسترداد أموال العراق المنهوبة، على حد وصفه، في تأكيد على أن حكومته
ماضية في مكافحة ملف الفساد، تماما كما قالت الحكومة التي سبقته ليتّضح بعد ذلك أنها
متورّطة في ما عُرف بـ"فساد القرن"، وتماما كما فعلت الحكومات التي سبقت
السابقة، ومنذ العام 2003.
يتناسى السوداني، وهو يدعو المجتمع الدولي إلى التكاتف من
أجل مكافحة الفساد، أن هذا الملف تشترك فيه بالدرجة الأولى حكومته ممثلة بالأحزاب التي
تدعمها، والتي انبثقت منها هذه الحكومة قبل نحو عام. ويتناسى أن ملفات الفساد التي
بدأت تظهر على سطح الأحداث العراقية وخلال عام من عمر هذه الحكومة لا تحتاج إلى مجتمع
دولي للمساعدة في فضحها، وإنما إلى إرادة، وقانون يحمي هذه الإرادة، وهو ما لا يتوفر
عليه اليوم للأسف.
لقد وظفت الحكومات العراقية السابقة، منذ أولاها التي تشكّلت
عقب الغزو الأميركي، أموال البلد لتثبيت دعائمها. ولأن هذه الحكومات انبثقت من أحزاب
وقوى سياسية وزعامات دينية، فإن أموال العراق منذ ذلك التاريخ إنما تذهب إلى هذه الجهات
الراعية للحكومات، حتى أصبحت تدير تجارة بمليارات الدولارات، وتشابك السياسي مع الاقتصادي،
وما عاد الفرز بينهما أو فك هذا التشابك ممكنا.
في تقرير مؤشّر مدركات الفساد لعام 2022 الصادر عن منظمة
الشفافية الدولية، صُنف العراق من بين أكثر الدول فساداً، إذ حلّ في المرتبة السابعة
عربياً و157 عالمياً من بين 180 دولة مدرجة على قائمة المنظمة، وهي الدرجة التي حافظ
عليها العراق منذ عقدين تقريبا. وتفيد الأرقام بأن حجم الأموال المنهوبة من العراق
تجاوزت الـ300 مليار دولار، في حين بين تقرير صادر عن وكالة الأنباء العراقية الرسمية
أن المبلغ الكلي وصل إلى 360 مليار دولار، وكان رأي للجنة المالية في البرلمان العراقي
مغايرا، وتحدّث عن 450 مليار دولار. وفي العام الماضي، سمع العالم بواحدة من أكبر قضايا
نهب المال العام، حينما اتهمت هيئة الضرائب العراقية خمس شركات خاصة بسرقة أكثر من
2.5 مليار دولار من أموال الهيئة، بالتنسيق مع موظفين في وزارة المالية، ما يجعلها
تصنّف أكبر سرقة في التاريخ.
هذه لمحة سريعة عن واقع الفساد في العراق، وهو واقعٌ معلن
ومعروف للجميع، أما غير المعلن فهو أكبر بكثير من ذلك، فهذه القوى والأحزاب والزعامات
الدينية والسياسية تتقاسم واردات الفساد مع موظفيها الكبار، بدءاً من درجة الوزير إلى
درجة المدير العام، حتى وصل الأمر إلى التعيينات في السفارات العراقية، فبينما يخوّل
نظام وزارة الخارجية العراقية الداخلي القوى السياسية ترشيح 25% من سفراء العراق، و75%
هي حصّة الوزارة، انقلبت تلك القوى على هذا القانون وعكسته، وصارت تعين نحو 75% من
سفراء العراق في الخارج بناء على نظام المحاصصة، ووصل سعر درجة سفير إلى نحو مليون
دولار، يتم دفعها نقداً إلى زعيم الكتلة، وهكذا دواليك.
لقد صادرت
هذه الطبقة السياسية كل شيء في العراق، حتى التعبير وحريته الذي تتشدّق به، ووظفت أموال
العراق بطريقة سيئة، وحولتها إلى رشى تدفعها، إن لزم الأمر، إلى الشعب و"إعلامه"
من أجل أن يسكت عن فسادها.
كان المحرّك
الأساس لانتفاضة تشرين (2019) يوم أن كانت تلك الطبقة على وشك أن تنتهي، القمع الذي
قوبلت به تظاهرات حملة الشهادات العليا في بغداد الذين كانوا يبحثون عن توظيف. وحتى
لا تتكرّر الانتفاضة، فتحت حكومة محمد شيّاع السوداني أبواب التوظيف، لأنها تدرك جيدا
أن ذلك سيكون ضمانة لها بوجه أي "تشرين" أخرى، بغضّ النظر عن حاجة العراق
لجيوش أخرى من العاطلين من العمل، بل أكثر من ذلك، بدأت الحكومة تدعم القوى الشبابية
المعارضة للعملية السياسية بالمال الفاسد من أجل تحييدها.
يقول رئيس
الحكومة العراقية الأسبق إياد علاوي، في مقابلة صحافية معه أخيرا، إنهم لم يتمكنوا
من العثور على أي عقار مسجل باسم الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، بينما على الضفة
الأخرى من بحر المأساة العراقية لا يمكن لك أن تمشي في أيٍّ من شوارع بغداد أو دبي
أو بيروت أو حتى نيويورك أو باريس إلا ووجدت فيه بيتاً أو قصراً أو معلماً لهذا السياسي
العراقي أو ذاك ممن جادت بهم أميركا علينا بعد 2003.
المصدر: العربي
الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".