علي أنوزلا
فيما تقترب الحرب القاسية والمدمرة حول السلطة في السودان
بين الجنرالين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ونائبه السابق محمد حمدان دقلو، المعروف
باسم حميدتي، من الدخول في أسبوعها الثالث، لا تزال أصوات في الخارج والداخل تراهن
على إيجاد حلٍّ سياسيٍّ لتقاسم السلطة بين الرجيلن الدمويين اللذيْن يمضيان في تقتيل
شعبهما وتشريده وتدمير بلدهما بلا رحمة. ومثل هذا المسعى العبثي، رغم نُبل (وصدق) النيات
التي تحرّكه هو الذي يزكّي طموحات الجنرالين المتعطشين إلى الدم والسلطة. وحتى في حال
تحقق الحل السياسي، رغم أنه يبدو بعيد المنال، لن يكون سوى فترة تهدئة أخرى، يستعيدان
فيها أنفاسهما قبل العودة إلى التناحر. فإذا كان من درسٍ لهذه الحرب التي تُدمي السودان
فهو انكشاف النيات التسلطية عند الجنرالين اللذيْن تصعُب الثقة مستقبلا فيما يُلقونها
من وعود كاذبة ومخادعة.
لكن، هل كان السودانيون يحتاجون كل هذه الخسائر الفادحة في
الأرواح والممتلكات العمومية من مطارات ومستشفيات، وكل هذا الدمار الذي حلّ ببلادهم،
وقتل المئات وشرّد مئات الآلاف منهم، ويهدّدهم بحربٍ أهلية قد تمزّق بلدهم إلى كانتونات
متناحرة، مثل ما يجري في ليبيا واليمن، أو لا قدّر الله تحويله إلى صومال آخر؟ كان
الجواب معروفا أربع سنوات قبل أن تبدأ هذه الحرب المجنونة، عندما اندلعت الثورة الشعبية
التي أطاحت نظام الدكتاتور عمر البشير، وصدّق المدنيون وعود العسكر الذين ضحّوا برأس
نظامهم من أجل الحفاظ على النظام نفسه. يومها، ارتفعت أصواتٌ كثيرة تحذّر من الثقة
الزائدة في مصداقية قبول العسكر تقاسم السلطة مع المدنيين. وكانت فترة الانتقال الديمقراطي
التي اقترحها العسكر، وكان مقرّرا أن تدوم ثلاث سنوات، قبل تسليمهم السلطة إلى المدنيين،
توشي بوجود نيّة مبيّتة للغدر، لأن طول المدة مقابل المهام التي كان مطلوبا إنجازها
يفضح النيات الخبيثة وراءه. وانكشفت هذه النيات بعد انقلاب أكتوبر 2021، أي قبل سنة
من انتهاء الفترة الانتقالية. ومع ذلك، لم يستوعب كثيرون الدرس، وبدأت من جديد مناورات
العسكر لإطالة فترة الانتقال الديمقراطي سنتين إضافيتين، واستغرقت هذه المناورات، وحدها،
19 شهرا، وعندما تم التوصل إلى ما سمّي "اتفاقا سياسيا" برزت خلافات داخل
صفوف العسكر هذه المرّة، أدّت إلى الحرب الطاحنة الحالية. فهل تجب الثقة بعد اليوم
في مؤسّسة كل تاريخها منذ وجدت دموي وانقلابي؟ وأكثر من ذلك، كيف تمكن الثقة في اثنين
من قادتها انقلابيين انقلبا على رئيسهما السابق عمر البشير، وانقلبا على شركائهما في
السلطة من المدنيين، واليوم ينقلبان ضد بعضهما وضد الشعب الذي يعبثان بمقدّراته من
أجل مصالحهما الشخصية وطموحاتهما السلطوية؟!
الأخطاء الفادحة التي ارتكبها المدنيون الذين قبلوا الجلوس
مع العسكر، عندما كانت الثورة الشعبية في عنفوانها، لا تعدّ، بدأت بتنازلات تلو تنازلات،
وبثقة عمياء في وعود العسكر، والدخول معهم في شراكةٍ ملغومةٍ لتقاسم السلطة، وقبولهم،
بل دفاع بعضهم عن إطالة الفترة الانتقالية. كل من وضع يديه في أيدي هذين الجنرالين
المجرمين يتحمّل جزءا من المسؤولية عما يحصل اليوم في السودان، لأن تزكيتهما والتغاضي
عن جرائمهما قبل الثورة وبعدها كانا بمثابة إهانة صريحة لذكاء السودانيين، واستخفافا
بأرواح شهداء ثورتهم عام 2019، وقد قُتلوا بدم بارد برصاص الجيش وميلشيات الدعم السريع.
من دون أن تُنسى مسؤولية الأمم المتحدة التي قامت بنوع من عملية "غسل سياسي"
لجرائم الجنراليْن، وقدّمتهما للعالم رجال دولة، وشريكيْن موثوقا بهما لإدارة المرحلة
الانتقالية. أما الدول الإقليمية والقوى العظمى التي تعاملت معهما بوصفهما مسؤوليْن
محترميْن، فلا تهمها سوى مصالحها التي تتقاطع في السودان، وهو ما يفسّر اليوم هروبها
من البلاد تاركة الشعب رهينة يواجه مصيره وحيدا، بعد أن دمّر جنرالات الجيش كل أمله
في إقامة نظام مدني ديمقراطي في بلد عانى الكثير، منذ استقلاله قبل أكثر من ستة عقود،
من عبث حكم العسكر وتخريبه.
أمام فداحة ما يجري في سودان جريج يحترق على الهواء مباشرة،
لا أحد يمكنه أن يتوقّع كم ستستمر رقصة الموت هذه بين جنرالين مصمّمين على التقاتل
حتى آخر رصاصة وآخر جندي، غير مكترثيْن بدعوات التهدئة وضبط النفس من واشنطن ولندن
وباريس وروما وموسكو وبكين وطهران والجزائر والرياض والقاهرة وغيرها، ومن منظمّات عديدة،
ومن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي. ويُظهر
هذا الإجماع الدولي حرصا على وحدة السودان واستقراره. وباستثناء جنرالاته، لا أحد لديه
مصلحة في رؤية هذا البلد يواصل نزوله إلى الجحيم الذي يدفعه إليه مهووسون بالسلطة حد
الجنون!
وبالنظر إلى صعوبة التوفيق بين طموحات الجنراليْن المتناحريْن،
فإن كل مؤشرات الصراع بينهما تهدّد بتحوله إلى حربٍ أهليةٍ طويلة الأمد، ستزعزع استقرار
منطقة هشّة فعلا، لأنهما، حتى لو سكنت الحرب فترة، سيعيدان إشعالها أو يخرُج من المؤسّسة
العسكرية نفسها جنرال آخر طموح يشعلها. والحال أنه كان يجب التعامل معهما منذ بداية
الثورة الشعبية بصرامة وصراحة كمجرميْ حربٍ، مكانهما ليس في السلطة، وإنما في سجن كوبر
إلى جانب رئيسهما السابق عمر البشير، بعد كل ما فعلاه ببلدهما وشعبهما. وعلى المجتمع
الدولي أن يغيّر تعامله مع جنرالات الحرب في السودان، ويعاملهم مثلما عامل جنرالات
ميانمار، لأن الخراب والفوضى والجرائم التي ارتكبها البرهان وحميدتي في حقّ شعبهما
وبلدهما لا تقلّ عن التي ارتكبها أولئك في حقّ بلدهم وشعبهم.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".