بيار عقيقي
بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي و28 منه، 21 يوماً من تمظهر
الصورة الإسرائيلية على حقيقتها، من دون اختباء ولا تجميل. 21 يوماً من إعلاناتٍ شبه
يومية لإسرائيليين تصبّ في سياق وصف الفلسطينيين بشتّى النعوت، عدا وجودهم بشرا.
"الموت للعرب" التي تدوّي بشكل دائم في الأراضي المحتلة لم تكن عبارة تنطقها
حفنة من المختلّين، بل سياسة قائمة بحد ذاتها، يترجمها السائرون في الشوارع، وكأنهم
النبض الفعلي للقاطنين في مكاتب صناعة القرار الإسرائيلي. لا يمكن محو هذه الحقيقة
في اليوم التالي لنهاية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وفي الضفة الغربية المحتلة.
كل عدوان أو حرب ستنتهي. حتمية تاريخية. في حالة العدوان الإسرائيلي على غزّة، ليس
معروفاً كيف ستكون نهايتها، لكن ما هو واضح سوداوية مستقبل من نزحوا في القطاع. نحو
نصف مساكن غزّة دُمرّت. البنى التحتية، التي بالأساس شبه معدومة، باتت حلماً. القطاع
الصحي يتحوّل إلى سراب. هذا كله ولم يحلّ الشتاء ولم ينتهِ العدوان حتى.
يُخبر الإسرائيليون العالم أن حربهم ستستمرّ فترة طويلة،
قد تكون أسابيع أو أشهراً، لكنها إشارة إلى أن هذه الفترة المستقبلية، لمن يبقى على
قيد الحياة في غزّة، ستكون موتاً جديداً للقطاع. مجرّد تخيّل ملايين البشر هائمين على
وجوههم بعد انتهاء الحرب، من دون سقفٍ يؤويهم أو تدفئة من بردٍ أو وقاية من أمطارٍ،
لهو مشهد تقشعرّ منه الأبدان. تكرّر من سورية والعراق واليمن إلى أرمينيا وأفغانستان.
الفارق الوحيد أن الاحتلال هنا لا يكترث لشخص، مدني أو عسكري. لا شيء بدأ في 7 أكتوبر/
تشرين الأول الحالي. كل شيء انبثق منذ أكثر من سبعة عقود ونصف العقد على الأقلّ. العقلية
الإسرائيلية تبقى نفسها، قائمة على التهجير والقتل والتدمير. لا معنى لحياة أي شخصٍ
خارج إطار الخضوع لذهنيتهم.
يعتبر كثيرون أن شاحنات معبر رفح هي كل شيء. نعم هي كذلك
لكل فلسطيني في القطاع حالياً، مهما كانت نادرة، لكنها ليست كذلك لمستقبل ما بعد العدوان،
غير أن ما يدفع إلى التساؤل وسط زحمة الأخبار المتلاحقة عن المجازر الإسرائيلية ما
إذا كان صمت العالم بأكمله، الغربي الذي أشعل الضوء الأخضر مبرّراً للإسرائيليين بشنّ
حربٍ بلا هوادة، و"الشرقي" من الصين وروسيا اللذين اتخذا موقعاً وسطياً لا
أكثر، سيسمح في نشوء قواعد جديدة للعمل السياسي ـ العسكري في العالم. ماذا لو قرّرت
دولةٌ ما اجتياح أخرى وارتكاب المجازر، لأن إسرائيل فعلتها ولم تُحاسَب؟ من يمنع الروس
من استخدام مزيد من قواتهم وسلاحهم لضرب أوكرانيا بغية إخضاعها؟ من يقف رادعاً بوجه
الصين في حال قرّرت غزو تايوان؟ أكثر من ذلك، من الذي سيقف بوجه الولايات المتحدة،
إذا عادت وقرّرت شنّ هجومٍ على بلاد تعارضها، شبيهة بحروبها على فيتنام والعراق وأفغانستان
وغيرها؟
وُلدت معادلة جديدة في غزّة، بطلها الإسرائيليون، مفادها
أنه يحقّ لأيّ كان فعل كل ما يشاء، لأن منطق القوة، المزيّن بنفاقٍ عالمي، يسمح بذلك،
ولأن حدود تحرّك شعوب الأرض محدودة. قد يتغيّر الأمر غداً، لا أحد يعلم. غير أن واقع
اليوم يُظهر أن الشعوب، الغربية منها خصوصاً، لا تزال انتفاضاتُها في مواجهة أنظمتها،
لدعم الحقّ الفلسطيني، تحت السيطرة بالنسبة لحكام تلك الأنظمة.
لم نكن لنشهد أمامنا الرعب المتجسّد في القصف الهمجي الإسرائيلي
على قطاع غزّة، لو أن العالم، الذي رفع شعارات حقوق الإنسان، قام بواجبه قبل 75 عاماً.
ولم يكن الإسرائيلي لينال حريته في الإجرام، لو أن في العالم عدلاً يكفل حياة إنسان
واحد في غزّة. عادة، ينتفض الإنسان ويستنفر أياماً قبل الاعتياد على أي حدث، فكيف بالحروب؟
الشتاء على الأبواب. الإسرائيلي يواصل عدوانه ولا ديارَ تنتظر عودة سكان غزّة.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".