بشير البكر
كلّما
تأزم الموقف بين طهران وواشنطن، حدث انفراجٌ غير متوقع. وكثيرا ما حبست المنطقة أنفاسها،
وسط مخاوف من مواجهةٍ مسلحة، ثم جاءت المفاجأة عن طريق الإعلان عن صفقة، تتجاوز تبريد
الأجواء إلى ما هو أبعد بكثير، مثلما حصل في الأسبوع الماضي، حينما توصل الطرفان إلى
اتفاق، رعته الدوحة، يقوم على أساس إفراج الولايات المتحدة عن أموال إيرانية مجمّدة،
مقابل إفراج إيران عن مواطنين أميركيين مزدوجي الجنسية محتجزين لديها. واللافت أن هذا
الاتفاق جرى بعد عمليات تصعيد متبادل في مياه منطقة الخليج العربي، في ما يخصّ مرور
السفن، وعلى أساسه أرسلت الولايات المتحدة ما يزيد على ثلاثة آلاف جندي، من أجل مهمّة
محدّدة، منع إيران من عرقلة الملاحة هناك. وبينما كانت التوقّعات تشير إلى ردٍّ عسكري
إيراني، على غرار ما جرى في مرّات سابقة، جاء الإعلان عن صفقة الأموال مقابل السجناء.
سياسة
"شعرة معاوية" هي السارية بين طهران وواشنطن. لا قطيعة ولا صداقة. ويبدو
أن هناك تفاهما راسخا، غير مكتوب، على احترام هذه القاعدة والحفاظ عليها، أسلوبا في
التعامل، وصيغة متحرّكة حسب الزمان والمكان، لتظلّ مناسبةً للطرفين على اختلاف جدول
الأعمال في كل مرّة. كلاهما لا يرغب بعلاقات حارّة، طالما أن هناك إمكانية لبقاء التباينات
تحت السيطرة، مهما بلغت حدّتها، بحيث يمكن التوصل إلى تسوية، بدلا عن الصدام. وصار
واضحا أن بقاء التوتّر قائما لا يزعج الطرفين، بل يخدمهما في بعض الأحيان، لأنه يبيح
لواشنطن مواصلة سياسة العقوبات التي تُمارس من خلالها سياسة عزل إيران عن جزءٍ من العالم،
وخصوصا أوروبا، التي تطمح إلى علاقات اقتصادية مع السوق الإيراني، وفي الوقت ذاته،
تمارس الولايات المتحدة منع إيران من الاستفادة من جزء من مواردها الاقتصادية، تحت
بند تمويل الأنشطة المزعزعة للاستقرار. وبالنسبة لإيران التي تتحمّل كلفة اقتصادية
من جرّاء سياسة العقوبات الأميركية، فإن الخصام مع الولايات المتحدة يعمّق الهوية السياسية
التي صنعت لها موقعا إقليميا ودوليا خاصا، واستطاعت أن تترجمها إلى دوْر من أجل التمدّد
سياسيا وعسكريا في منطقة الشرق الأوسط، حتى باتت قوة تتحكّم بمصير أربعة بلدان عربية،
لبنان والعراق وسورية واليمن. كما أن هذا الوضع حرّرها من أي التزام يحول دون بناء
علاقات متميّزة مع كل من روسيا والصين اللذيْن تصنّفهما الولايات المتحدة مصدر تهديد
استراتيجي.
تعتمد هذه الاستراتيجية على الفصل بين
كل صفقة وأخرى، كبيرة أم صغيرة، فهي تعتمد على التبادل والمقايضة التي لا يتحمّل أحد
طرفيها كلفة كبيرة، فطهران تستعيد من خلالها جزءا من أموالها المُحتجزة في الخارج،
وهذا من حقوقها، لأنها عائدات نفطية، مقابل الإفراج عن مواطنين مزدوجي الجنسية في أغلب
الأحيان. وتقوم هذه اللعبة، التي تنتهي بخروج الطرفين رابحين، على سياسة النفَس الطويل
الذي يسير في مسارات متعرّجة، حتى يصل إلى هدفه النهائي. وفي أغلب الأحيان، تلعب قوى
إقليمية دور الميسّر في كل صفقة. وهذا ما حصل في الاتفاق النووي، الذي وقعته إدارة
الرئيس الأسبق باراك أوباما مع إيران عام 2015 بوساطةٍ قادتها عُمان التي استضافت مفاوضات
سرّية بين الطرفين دامت ثلاثة أعوام، فيما استغرق إنجاز الصفقة الأخيرة، التي توسطت
فيها قطر، عامين. وما بين إدارة أميركية وأخرى تتأثر بعض التفاصيل، بينما تحافظ طهران
على منهج ثابت لا يتغيّر، يعتمد على لعب الأوراق على نحو تظهر فيه أنها الكاسب الذي
نجح في إجبار واشنطن على تقديم التنازلات. وهذا يعود عليها بمكاسب معنوية وسياسية،
لا تقلّ أهمية عن العائدات المادّية، ما يعزّز موقعها الإقليمي والدولي.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء
الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".