أحمد
الجندي
انقضى عام على حرب طوفان الأقصى، وأصبح يوم 7 أكتوبر
(2023) ذكرى أكبر كارثة تتعرّض لها إسرائيل منذ الانتصار المصري في الشهر نفسه عام
1973. وتزامناً مع هذه الذكرى، اهتمّت الصحافة العبرية ومراكز الأبحاث الإسرائيلية
بجرد حساب لما تعرّض له الكيان الصهيوني من خسائر، أو ما تمكّن من إنجازه خلال هذا
العام، عبر أرقام نشرتها مؤسّسات الدولة، واستطلاعات رأي أجرتها مراكز الأبحاث
ونشرت خلال الأيام الماضية. ولأن الخسائر في فلسطين ولبنان من قتل ومجازر وتدمير
لا تخفى على أحد، يركّز المقال أساساً على أهم ما ذكرته المصادر الإسرائيلية من
خسائر تعرّضت لها دولة الاحتلال، وليس حصرها، مع ضرورة الحذر في التعامل مع ما
يصدُر عن المصادر الإسرائيلية، وعدم التسليم بها بالكامل؛ حيث تعمّدت أحياناً
التضليل، أو إخفاء الحقائق.
تكمن الخسارة الأولى التي يتعرّض لها الإسرائيليون في
دخولهم حرب استنزاف وجودية، لا يعلم على وجه التحديد أي أفق لنهايتها. وعلى الرغم
من أن الجيش الإسرائيلي تخطّى استراتيجيته العسكرية التي اعتمدها طوال الوقت منذ
قيام الدولة، والقائمة على الحرب الخاطفة السريعة، سوف تكون لهذا التخطي، حتماً،
مآلات سلبية خطيرة في المستقبل على الجيش والكيان معاً. عبر عن هذا المعنى مقال
الإعلامي الإسرائيلي في موقع واللا، نير كيبنيس، بقوله "إن إسرائيل تدخل
الشهر الثالث عشر لحرب استنزاف بلا نهاية واضحة، وهي حرب وجودية، ربما لا تؤدي إلى
تدمير إسرائيل مرة واحدة، ولكنها مثل المرض الخطير يقتل إسرائيل يومياً بالتجزئة،
وهكذا يزداد تدمير الكيان كل يوم أكثر من سابقه، بحيث لو قدر لإسرائيل النجاة في
النهاية فلن تكون مكاناً صالحاً للعيش.. ولذلك تقف إسرائيل بعد عام كامل من الحرب
في أسوأ مكان يمكن أن تكون فيه، مفتقدة أي فرصة لتحقيق نصر عسكري مطلق، ومن دون
مجال للتوصل إلى تسوية سياسية تكمل النصر العسكري المحدود". ويعود هذا الوضع
السيء الذي تقف فيه إسرائيل إلى تغييرها استراتيجية الحرب التي اعتادتها طوال
تاريخها؛ فالحسم العسكري في الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، وفقاً لقائد مركز
دادو للفكر العسكري العميد احتياط عيران أورتل، "هو إزالة التهديد العسكري
والعودة السريعة، ومن ثم يشذ تدمير سلطة حماس تماماً عن مفهوم الأمن الإسرائيلي،
لأن إسرائيل ليست مبنية على الحروب الطويلة".
ومن الواضح أن هذه الحرب الطويلة التي جاءت على غير ما
اعتادت الاستراتيجية الإسرائيلية، إضافة إلى انهيار نظرية الردع الإسرائيلي الذي
كشفته التهديدات اليومية التي تتعرّض لها من غزّة ولبنان والعراق واليمن وإيران،
بل وقوع أكثر من 5500 عمل فدائي، بين طعن أو إطلاق رصاص، في الضفة الغربية والداخل
الصهيوني، بحسب إشارة معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، بعضها نفذ على يد
فلسطينيين من الأراضي المحتلة في 1948، وأدّى ذلك كله إلى تسرّب الشك في المشروع
الصهيوني بأكمله في الأوساط اليهودية، وتفاقم حالة التشاؤم المتزايدة أصلاً حول
مستقبل الكيان، والتي عكسها استطلاع رأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية ونشر
نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، وكشف أن نسبة 44% من يهود الكيان الصهيوني متشائمة
بشأن ذلك المستقبل، وهذا يعني أن "طوفان الأقصى"، حتى اللحظة، عصف
بإنجازات 76 عاماً للاحتلال، وأن سؤال المستقبل أصبح محل شك متزايد في العقل
اليهودي، وهو ما تؤكده أيضاً القناعة المتدنية بتماسك المجتمع؛ حيث كشف الاستطلاع
نفسه أن 44.5% من يهود الكيان لديهم شعور متدنّ حيال هذا الأمر. وإذا كانت إسرائيل
منذ نشأتها ظلت تبحث عن الشرعية في المنطقة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من جني آخر ثمار
التطبيع مع ما يسمى محور الاعتدال العربي، فإن طوفان الأقصى أعاد طرح سؤال الشرعية
من جديد، وهو سؤال بدا واضحاً في كلمات بايدن عن حق إسرائيل في الوجود، وفي
تصريحات سياسيين غربيين عن ضرورة ضمان مستقبل إسرائيل، أو ربط بعضهم مصير دولهم
بمصير الكيان الصهيوني، وهي جميعها تصريحات تحمل في ظلال معانيها شكوكاً حقيقية
حول إمكانية استمرار دولة قامت على اغتصاب حقيقي للأرض. يضاف إلى ذلك كله أن 71%
من الإسرائيليين اليهود أصبحوا لا يشعرون بالأمن الشخصي في الكيان.
ولطالما كان ضمان بقاء الكيان مرتبطاً من جانب بتفوق
عسكري تضمنه الولايات المتحدة والدول الغربية، وتأييد في الرأي العام العالمي من
جانب آخر. غير أن التفوّق العسكري لم يحقق لإسرائيل قدرة على الحسم في غزّة، ولن
يسمح لها على الأرجح بالحسم في لبنان، كما أنها خسرت الرأي العام العالمي نتيجة
جرائمها التي فاقت النازية. وقد ظهرت هذه الخسارة الكبيرة عبر مقارنة عدد
التظاهرات المندّدة بالجرائم الإسرائيلية، أو الداعمة الحقّ الفلسطيني في
المقاومة، مقابل تلك الداعمة دولة الاحتلال؛ وطبقاً لما رصدته البيانات
الإسرائيلية بلغ المتوسّط الشهري لعدد التظاهرات على مستوى العالم المؤيدة
للفلسطينيين والرافضة للمجازر الصهيونية حوالي 2100 تظاهرة، مقابل 65 داعمة للكيان
الصهيوني، أي إن كل فعالية داعمة لإسرائيل قابلها أكثر من 32 فعالية مؤيدة
للفلسطينيين. يضاف إلى ذلك أن معهد دراسات الأمن القومي، وهو ناشر هذه البيانات،
تعمّد التضليل في أكثر من جانب في هذه المسألة؛ إذ إنه اكتفى بالإشارة إلى عدد
الفعاليات فقط، من دون أن يشير إلى أعداد المشاركين فيها، وفي ذلك تعمّد إخفاء حجم
الغضب الشعبي العالمي من المجازر وجرائم الحرب الإسرائيلية، علاوة على تعمّد
التقرير الاكتفاء بخمس دول فقط في ترتيب أكثر الدول التي شهدت تظاهرات مندّدة
بالجرائم الإسرائيلية أو داعمة لها؛ ومن ثم كان طبيعياً أن تكون شعوب الدول
الإسلامية أو العربية، باستثناء الولايات المتحدة، الأكثر دعماً للمقاومة (اليمن،
الولايات المتحدة، المغرب، تركيا، إيران) بينما كانت التظاهرات المؤيدة للجرائم
الصهيونية في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وكندا وأستراليا، والحقيقة أن عدد
التظاهرات المندّدة بالجرائم الإسرائيلية في هذه الدول نفسها أكبر بكثير من
الداعمة لإسرائيل.
ولم تعكس بعض أرقام الإنجازات العسكرية الإسرائيلية
الواقع الفعلي؛ إذ لا يمكن قبول بيانات معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي
المنشورة في ذكرى مرور عام على الحرب عن تفكيك 22 كتيبة من كتائب القسام الأربع
والعشرين، خصوصاً أن الواقع الفعلي ومواجهات الأيام الأخيرة في أكثر من موقع في
قطاع غزّة؛ في جباليا، ومدينة غزّة، ورفح وخانيونس وغيرها، وإطلاق صواريخ اتجاه تل
أبيب يكذب الأرقام الإسرائيلية. وهذا كله لا يمكن فهمه إلا في إطار إعادة كتائب
الشهيد عز الدين القسام تنظيم كتائبها في القطاع، ما يعني عدم منطقية البيانات
الإسرائيلية، وتفسيرها أنها مبالغات اعتادها الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب، بل
اعتبارها مقدمة لتحويل غزّة إلى جبهة حرب ثانوية، وتقديم صورة كاذبة للجمهور
الإسرائيلي تبرّر فشل تحقيق أهداف الحرب في القطاع.
يضاف إلى ما سبق خسائر اقتصادية طائلة تعرّضت لها
إسرائيل، وما زالت، وبحسب تعبير الصحافي في "يديعوت أحرونوت"، جاد
ليئور، فإن العام الأخير هو أصعب السنوات التي عرفها الاقتصاد الإسرائيلي على
الإطلاق؛ حيث شهدت إسرائيل تخفيضاً لتصنيفها الائتماني للمرّة الأولى، ولأكثر من
مرة، وكانت نسبة النمو بالسلب، وتراجعت الاستثمارات، ودخلت صناعة التكنولوجيا
الفائقة الإسرائيلية في أزمة عميقة بعد تراجع أعداد المستثمرين الأجانب
والإسرائيليين بنسبة 30%، وزيادة متكرّرة للتضخم، ونسبة عجز في الميزانية وصلت في
سبتمبر الماضي إلى 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو عجز قد يجبر الحكومة على
تنفيذ إجراءات صعبة، وزيادة في الضرائب المفروضة، وانخفاض التصدير بنسبة 8.1%،
وكذا الاستيراد بنسبة 9.8%، وانهيار قطاع السياحة الإسرائيلية.
71% من الإسرائيليين اليهود أصبحوا لا يشعرون بالأمن
الشخصي في الكيان
ورغم المساعدات المالية والدعم المفتوح من الولايات
المتحدة وأوروبا، يتحمّل الاقتصاد الإسرائيلي أعباء التعويضات الطائلة المدفوعة
للنازحين الإسرائيليين في الشمال والجنوب، وتعويضات الخسائر في الممتلكات، ورواتب
ضباط الاحتياط وجنوده، علاوة بالطبع على تكلفة الأسلحة المستخدمة في الحرب. وبحسب
مقال ليئور وصلت تكلفة الحرب فعلياً إلى 300 مليار شيكل (79.6 مليار دولار)، وهو
مبلغ يمثل نصف ميزانية الدولة للعام القادم 2025. ويشار إلى أن بنك إسرائيل، في
مايو الماضي، وقبل تحوّل جنوب لبنان إلى جبهة أساسية، قدّر تكلفة الحرب بـ 250 مليار
شيكل (66.3 مليار دولار)، وقدّرت تكلفة الحرب في اليوم الواحد حينها بنحو ربع
مليار شيكل، من دون تكلفة التسليح، في حين أن تكلفة القصف الإسرائيلي وحده قفزت
إلى أربعة مليارات شيكل في يومين فقط بعد فتح جبهة لبنان، ما يعني أن الرقم
المذكور لميزانية وزارة الحرب في عام 2024 (7% من الناتج الإجمالي المحلي) غير
واقعي على الإطلاق.
ما سبق من خسائر إسرائيلية هو بعض ما أصاب الكيان
الصهيوني خلال العام الماضي منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، وهو جانب من جرد
حساب لم يحصر أعداد القتلى والمصابين، ولا مستوى الرعب، كما لم يتعرض لتراجع الثقة
في الدولة ومؤسّساتها وفي مقدمتها الجيش.. وهذا كله لا يعني إنكار حجم القتل
والدمار الذي أصاب الجانب الفلسطيني، أو اللبناني في الشهر الأخير منذ التصعيد في
الجبهة اللبنانية، ولكنه يُثبت أن ما يتم دفعه من خسائر هو ثمن عقود من الصمت
العربي، وأن من يخشى الدفع بالتجزئة، سيدفع الثمن بالجملة عند النهوض.
المصدر : العربي الجديد
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن
"آفاق نيوز".