هل يجدّد سقوط الأسد الربيع العربي؟
كانون الأول 18, 2024

باسل صالح

ما جرى في سورية ليلة الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، وهروب الرئيس المخلوع بشّار الأسد بعد تداعي ما تبقى من نظامه ومن هيمنته على بعض الأراضي السوريّة، إثر حسم القوى الثورية الموقف لناحية سيطرتها التامة على الأرض، أعادنا، وبشكل مباشر، إلى المكان والزمان الذي أُوقِفت فيها تلك القوى عن تشكيل الخطر الثوري الفعلي. لقد عاد بنا هذا التاريخ إلى تلك اللحظة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الحسم، قبل أن تتدخّل القوات الروسية والإيرانية، والمليشيات الدائرة في فلكيهما، خصوصاً من ناحية إيران وحزب الله، بالإضافة إلى تواطؤ العالم بأكمله لوأد (وإيقاف) الزحف الثوري باتجاه القلب التام للوضع يومها عموماً، كما أعادتنا إلى لحظة مواجهة زخم الربيع العربي الذي قامت الأنظمة به على مرأى (ومسمع) العالم بأكمله أيضاً وأيضاً. فما تم إنهاؤه الأسبوع المنصرم، وبفترة لا تتخطّى عشرة أيام، وتكلّل في تلك الليلة، كان بمثابة شرارة إعادة التدفّق المتمثلّة بإعادة عقارب الساعة إلى تلك اللحظة الثورية بالذات، اللحظة التي سبقت قدرة القوى النظامية على قلب المعادلة في صالحها، والشروع في ثورتها المضادّة لإعلان وقف المدّ الشعبي الثوري العربي، فإطاحة الأسد اليوم تشكّل، بحد ذاتها، إزالة السد المنيع الذي كان يحجُب النهر الشعبي الثوري العربي عن استكمال رحلته في الداخل السوري من ناحية، وفي المستوى العربي من ناحية ثانية. ولهذا السبب، يبدو المشهد اليوم كأنه لحظة انفجار السدّ وعودة جريان النهر إلى مسراه الطبيعي. وفي هذه اللحظات بالذات، تكون قوّة التدفق استثنائية، بحيث لا يمكن الوقوف بوجهها. فاللحظة، بما أعادت إحياءه من أمل في نفوس الشعوب، قد تكون فرصة تاريخية لتكثيف التدفّق الذي من الطبيعي ومن المنطقي أن يُترجم بموجة ثورية جديدة، وخصوصاً أن المتولّد منها سيكون بمثابة شرارة تعيد للشعوب العربية لحظة الربيع من بابها العريض، ولحظة إدراكها أن المستحيل الذي قد يبدو مستحيلًا يحمل في دواخله كل الإمكانات التي تجعله قاب قوسين أو أدنى من إمكانات التحقّق، بشرط أن تستطيع المسارعة إلى لملمة جراحها وإعادة بناء قواها الذاتية، وترجمتها بالتهيؤ للعودة إلى الشارع لاستكمال ما بدأته في السابق.

وعلى الرغم من أن المنطق يقتضي أن تُستكمل عملية تساقط الأنظمة المحيطة وخلخلتها، من لبنان وصولاً إلى إيران، جرّاء السقوط المدوّي للأسد ونظامه بوصفه صلة الوصل الأقوى بينهما، هذا ناهيك عن الأزمات الداخلية المختلفة التي تضرب إيران، وناهيك أيضاً عن الانهيار السائد في لبنان، وتداعي ما تبقى من نظامه، وخصوصاً أن نظام الأسد كان أحد اللاعبين الرئيسيين في عملية تكريس السلطة والنظام اللبناني منذ الحرب الأهلية من ناحية، بالإضافة إلى تداعي قوة اللاعب الأساسي في الداخل اللبناني ودوره في ضبط إيقاع ممارسة السلطة، وتشكيلها، وحمايتها، بعد الضربات التي تلقاها في الشهرين الأخيرين، وتشلّ قدرته على المواجهة والقيام بدور الحارس الفعلي للنظام الطائفي وقواه الطائفية. قد تبدو الفرضية أن مصر هي الدولة التي قد تكون الأكثر تأثرًا بالموجة، لأسبابٍ كثيرة، وفي مقدمتها الغليان المستمر على المستوى الشعبي، جرّاء الغلاء الفاحش وجرّاء الأزمات الاقتصادية والسياسية البنيوية التي تضربها، وجرّاء تكثيف الممارسات القمعية والبوليسية... إلخ.

لذلك كله، تبدو اللحظة الآن، بضبابيّتها، وكأنها تخفي، في طياتها، ما لم يكن بالحسبان، لأنها تفتح الباب أمام الاحتمالات بأكملها، سواء على مستوى المواجهات الداخلية مع الأنظمة، أو على مستوى السؤال الضروري المتمثّل بالصمت المطبق للأنظمة العربية عن السلوك الإسرائيلي، وكمية إجرامه ومدى استباحته الدول المحيطة من ناحية ثانية، فالمسارعة التي أبدتها قوات العدو للتوغل داخل المنطقة منزوعة السلاح في الجولان المحتل تفيد بأن العدو يعلم جيداً أن مرحلة النزهة التي هيمنت خلال عقود مرّت وكان نظام الأسد، وغيره من أنظمة عربية، حارستها، لم تعد على النحو ذاته اليوم. بل قد يشكّل المسار الذي أخذته الثورة السورية، وما تفتحه من إمكانات، سؤالاً أمنيّاً بارزاً عليه في القادم من الأيام. فعلى خلاف محور الممانعة، وكل ادّعاءاته، يوضّح لنا السلوك الإسرائيلي أن مصدر الخطر الفعلي عليه ليس الأنظمة التي صادرت العمل الوطني تحت عناوين العروبة والقضية المركزية وغيرها من شعاراتٍ رنانة بلا مضامين حقيقية، كما أن كبح المجتمع وتحطيم قواه التي هيمنت طوال العقود السابقة لم تكن إلا نقطة قوّة تصبّ في صالح هذا العدو.

تشي كل الشروط أعلاه بأن الشارع قد يعود إلى الانفجار مجدداً، وبأسرع مما نتخيّل، فالمشكلات المذكورة أعلاه، بالإضافة إلى استمرار السلوك القمعي، والاهتراء على المستوى السياسي الخارجي، هي في الحالة الطبيعية نقاط تؤدّي إلى تثوير أي شعب، كيف بالحريِّ عندما تكون مصاحبة أزمات بنيوية داخلية، وسلوكيات مخزية خارجية؟

المصدر : العربي الجديد

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحيها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".