مستقبل لبنان بعد عام على الانخراط في معركة طوفان الأقصى *
تشرين الأول 21, 2024


د. وائل نجم

تصاعد خلال الأيّام الأخيرة الحديث عن مستقبل لبنان في ضوء تحوّل الجبهة الجنوبية مع شمال فلسطين المحتلة إلى نقطة المركز بعد نقل الجيش الإسرائيلي عملياته من غزة إلى الشمال، وفي ضوء تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن تغيير النظام في لبنان كمقدمة لتغيير النظام في الشرق الأوسط، وهو ما استدعى أو يستدعي البحث عن مستقبل لبنان في المرحلة المقبلة بعد مضي عام على معركة طوفان الأقصى.

أولاً : مسرح الأحداث

ما إنْ أطلقت المقاومة الفلسطينية معركة "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى التحق حزب الله اللبناني بالمعركة بعد يوم واحد فقط في الثامن من أكتوبر حيث شنّ سلسلة هجمات على مواقع الاحتلال الإسرائيلي في مزارع شبعا المحتلة أولاً، ثمّ وسّع ذلك لتشمل مواقع عسكرية على طول الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، والممتدة على طول أكثر من مئة وعشرة كيلومترات بدءاً من بلدة الناقورة على ساحل البحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى مرتفعات جبل الشيخ في مزارع شبعا المحتلة على الحدود السورية، واستخدم في هذه المواجهات بشكل أساسي الصواريخ القريبة المدى التي لم يتجاوز مداها في مرحلة أولى 5 إلى 7 كيلو متر داخل الأراضي المحتلة. وفي أول تعليق من حزب الله على المعركة أعلن أمين عام الحزب، حسن نصرالله، بعد مرور شهر كامل على انطلاقها أنّه يخوضها على قاعدة إسناد غزّة والتخفيف عنها وإشغال الجيش الإسرائيلي واستنزافه[1]، في وقت اعتمدت فيه إسرائيل على سياسة الحفاظ على قواعد الاشتباك والمواجهة، وإن كانت هذه المواجهة خرجت أكثر من مرّة عن تلك القواعد خاصة عندما تمّ استهداف بُنى مدنية وخدمية في لبنان كما في المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق فريق إسعاف تابع لـ "جمعية الإسعاف اللبنانية" في بلدة "الهبّارية" في منطقة العرقوب المحاذية لمزارع شبعا المحتلة شرق الجنوب عندما أغارت الطائرات الحربية على المركز الإسعافي ما أدّى إلى مقتل سبعة مسعفين في منتصف شهر رمضان من العام 2024. لقد ظلّت المواجهات ضمن سقف الإسناد والإشغال حتى نهاية شهر تموز 2024 عندما استهدفت الطائرات الإسرائيلية القائد العسكري الأول لحزب الله، فؤاد شكر المعروف بالحاج محسن، في غارة على منزل سكني في حارة حريك في عمق الضاحية الجنوبية، ثم في فجر اليوم التالي اغتالت إسرائيل في طهران رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنيّة. لقد شكّل هذان التاريخان بداية تغيّر في مشهد المواجهات على الجبهة الجنوبية حيث كانت القوات الإسرائيلية قد أنهت إلى حد بعيد عملياتها العسكرية في قطاع غزة فحوّلت قسماً من قواتها العسكرية إلى جبهة شمال فلسطين مع جنوب لبنان، محضّرة بذلك لتفعيل جبهة جديدة هي جبهة لبنان.

لقد بدأ التحوّل الفعلي في جبهة جنوب لبنان في 17 أيلول/سبتمبر 2024 عندما تمكّنت إسرائيل من تفجير أكثر من ثلاثة آلاف جهاز "بايجر" مرة واحدة وفي وقت واحد كان عناصر حزب الله يستخدمونها، وشكّل هذا التفجير ضربة قويّة ومفاجئة لحزب الله قُتل فيها عشرات وجُرح آلاف من أفراد الحزب أو من عائلاتهم؛ ثم في اليوم التالي يوم 18 أيلول/ سبتمبر تمكّنت إسرائيل من تفجير بعض أجهزة الاتصال العادية التي كان يحملها عناصر من الحزب وهو أيضاً بدوره شكّل صدمة إضافية. ثم تلا ذلك الإغارة بواسطة طائرات حربية على موقع في الضاحية الجنوبية تبيّن أنّه كان يضمّ اجتماعاً لقيادة فرقة "الرضوان" وهي أهم وأبرز فرقة في الحزب، ما أدّى إلى مقتل قائد الفرقة، إبراهيم عقيل، وعدد من أعضاء القيادة؛ وبعد ذلك استهدفت الطائرات الإسرائيلية عدداً من قادة الحزب الميدانيين، وتوجّت ذلك باستهداف المقر العام لقيادة الحزب في حارة حريك بالضاحية الجنوبية مستهدفة بذلك أمين عام الحزب، حسن نصرالله، ما أدّى إلى مقتله في الغارة مع عدد من مرافقيه وأحد ضباط الحرس الثوري الإيراني، اللواء عباس نيلفروشان، وذلك يوم الجمعة في 27 أيلول 2024، وكانت هذه الغارة بمثابة الانقلاب على كل قواعد الاشتباك والمواجهة، وقد اعترف حزب الله بمقتل أمينه العام في الغارة بعد أقل من 24 ساعة؛ ثم استكملت إسرائيل غاراتها على الضاحية واستهدفت في منطقة "المريجة" ما قالت إنّه خليفة نصرالله، القيادي في الحزب، هاشم صفي الدين، غير أنّ مصيره ما زال مجهولاً، ففي حين قالت إسرائيل إنّها قتلته، اكتفى مصدر لبناني مقرب من حزب الله بالقول إنّ الحزب فقد الاتصال بصفي الدين من دون توضيح مصيره [2]؛ وتزامن ذلك مع محاولات متكرّرة للجيش الإسرائيلي لاجتياح برّي لبعض القرى الجنوبية الحدودية غير أنّ هذه المحاولات باءت بالفشل على الرغم من مرور أكثر من أسبوعين على انطلاقها (تاريخ كتابة التقدير)، كما ترافق ذلك مع غارات كثيفة طالت بلدات ومدن لبنانية في محافظتي الجنوب والبقاع الشمالي بشكل أساسي حيث تتركّز البيئة الأساسية الحاضنة لحزب الله، وطالت أحياناً العاصمة بيروت ومناطق في جبل وشمال لبنان.

تجدر الإشارة إلى أنّ قوى فلسطينية ولبنانية شاركت خلال الفترة الأولى في معركة الإسناد من جنوب لبنان، وكان لافتاً إطلاق كتائب القسّام – لبنان صواريخ من الأراضي اللبنانية باتجاه مواقع إسرائيلية في شمال فلسطين، إضافة إلى أكثر من محاولة تسلّل نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة تمكّن بعضها من الخرق والاشتباك مع الجيش الإسرائيلي، فيما تمّ كشف الأخرى والتعامل معها من قبل هذا الجيش؛ كما شاركت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي ببعض عمليات التسلّل وبعض عمليات إطلاق الصواريخ نحو شمال فلسطين. لبنانياً سُجل مشاركة قوات الفجر، وهي جناح عسكري تابع للجماعة الإسلامية، بإطلاق عدة مرات صواريخ نحو مواقع عسكرية في الأراضي المحتلة، كما سُجل مشاركة لكلّ من حركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي، غير أنّ كلّ هذه المشاركات من غير حزب الله كانت خجولة ومن قبيل إبراء الذمّة وتسجيل المشاركة.

ثانياً : الموقف اللبناني من جبهة الإسناد والمشاركة فيها

إذا كان الموقف اللبناني الرسمي والشعبي والحزبي على تنوّعه قد التقى واجتمع على الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقّه بالدفاع عن نفسه وإقامة دولته، غير أنّه انقسم حيال استخدام الأراضي اللبنانية لتكون منطلقاً لعمليات عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي تحت عنوان الإسناد أو الدفاع أو أي شكل من الأشكال، وبدرجة أكبر حول استخدام فصائل فلسطينية للأراضي اللبنانية كمنطلق لشنّ عمليات عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي.

الموقف اللبناني الرسمي:

يمرّ لبنان بحالة فراغ مؤسسي حيث أنّ رئاسة الجمهورية في حالة شغور لعدم انتخاب رئيس جديد على الرغم من مرور قرابة العامين على انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون؛ والحكومة في حالة تصريف أعمال وفي أضيق الحدود، والانقسام السياسي حيال ملف انتخاب رئيس جديد إنقسام كبير وحاد، وبالتالي لجأت حكومة تصريف الأعمال برئاسة السيد نجيب ميقاتي إلى سياسة تشبه سياسة النأي بالنفس تجاه الأحداث التي شهدتها سوريا خلال العقد الثاني من القرن الحالي، خاصة وأنّه ليس لها أيّة إمكانية لصدّ الهجمات والأطماع الإسرائيلية بلبنان، ولا إمكانية لمنع ما يجري عند طرف الحدود، وعليه لجأت إلى التأكّيد على مطالبتها بتطبيق القرار الدولي 1701 ومن كلّ الأطراف، وتعهّدها بتنفيذ القرار من الجانب اللبناني، خاصة بعدما تحوّلت الجبهة من جبهة إسناد إلى جبهة مواجهة مفتوحة على كلّ الاحتمالات، كما طالبت الحكومة بوقف إطلاق النار فوراً[3]، وقد تسلّحت الحكومة بدعم المجلس النيابي الذي عبّر عنه رئيس المجلس نبيه برّي بالتنسيق الدائم مع رئيس الحكومة.

أمّا فيما خصّ الجيش اللبناني الذي ينتشر عناصره وجنوده في بعض المواقع الأمامية في الجنوب، فقد أعاد انتشار جنوده في بعض المواقع بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة [4]، بمعنى آخر سحب العناصر من بعض المواقع المتقدمة، وأعاد نشرها في مواقع خلفية، وأكّد الجيش على أنّه مستعد للدفاع عن الجنوب في حال تطوّر الموقف إلى اجتياح برّي، منفّذاً بذلك قرارات وتوجّهات القيادة السياسية المتمثّلة بالحكومة.

موقف القوى السياسية والحزبية:

اتفقت القوى السياسية اللبنانية على حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، كما دانت جميعها العدوان عليه، غير أنّها انقسمت حيال جبهة الإسناد من جنوب لبنان، ناهيك عن استخدام الأراضي اللبنانية من قبل فصائل فلسطينية كمنطلق لتوجيه ضربات للجيش الإسرائيلي.

ففضلاً عن حزب الله الذي فتح الجبهة يوم الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على قاعدة الإسناد ووجّه ضربات صاروخية ومدفيعة نحو مواقع الجيش الإسرائيلي، فقد انخرط في جبهة الإسناد كلّ من : حركة أمل، الجماعة الإسلامية، الحزب القومي السوري الإجتماعي، فيما أيّدت الأحزاب والقوى السياسية الحليفة لحزب الله على تنوّعها، الأحزاب العروبية الناصرية بشكل عام، الحزب التقدمي الإشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، الحزب الديمقراطي اللبناني بزعامة طلال أرسلان، الحزب الشيوعي، وغيرها من الأحزاب جبهة الإسناد مع حرصها على عدم إعطاء الذريعة للجيش الإسرائيلي حتى لا يوسّع عدوانه نحو كلّ لبنان.

في مقابل ذلك تحفّظت على جبهة الإسناد من الجنوب، وعلى استخدام الأراضي اللبنانية كمنطلق لهجمات فصائل فلسطينية كلّ من : القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، حزب الكتائب اللبنانية برئاسة سامي الجميل، والتيار الوطني الحرّ برئاسة جبران باسيل، وكلّها أحزاب مسيحية بعمومها، كما تحفّظ على ذلك بعض النوّاب المصنّفين على المعارضة بشكل عام، وأحزاب أخرى لا تحظى بتمثيل وانتشار واسع. وقد تداعت بعض هذه القوى والأحزاب والشخصيات إلى عقد لقاء (قاطعه حزب الكتائب وحزب التيار الوطني الحرّ) في المقرّ العام لحزب القوات اللبنانية في معراب[5]صدر عنه بيان دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار في لبنان، وإلى تطبيق القرارات الدولية 1559 و 1680 و 1701 بكل مندرجاتها، وإلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية في أسرع وقت وتطبيق بنود اتفاق الطائف. والجدير ذكره أنّ القرار 1559 يدعو إلى نزع سلاح الميليشيات كافّة بما في ذلك المقاومة، وبالتالي فإنّ البعض يرى في هذا القرار محاولة لتجريد لبنان من عنصر قوّة موجود بيده.

موقف المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية :

تشبه مواقف المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية إلى حد كبير الموقف الرسمي للدولة والحكومة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ بعضها يجاهر بمساندة الشعب الفلسطيني بكافة الطرق والأساليب من دون أن يتحدث صراحة عن دعم العمل المسلّح من جنوب لبنان، وبعضها الآخر يرفض ضمناً العمل المسلّح من جنوب لبنان من دون أن يجاهر بذلك علناً.

فمواقف دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية والمجلس الإسلامي الشيعي الإعلى يجاهر في العديد من المواقف بضرورة إسناد الشعب الفلسطيني وعدم تركه في معركته منفرداً، ولعلّ أفضل وأصدق تعبير عن ذلك، الموقف الذي عبّر عنه مفتي زحلة والبقاع الشيخ علي الغزّاوي ممثلاً مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان عندما شهر بندقية حربية أثناء تأبين أحد الشهداء في بلدة "لالا" في البقاع وقال إنّ الاحتلال لا يفهم إلاّ منطق ولغة البندقية[6]. وأقلّ من ذلك كان موقف مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز مع حرصها وتأكيدها على دعم الشعب الفلسطيني.

بينما ظلّت المرجعية المارونية في بكركي تؤكّد على إدانة العدوان الإسرائيلي على لبنان، ولكنّها تتمسّك في الوقت ذاته بتحييد لبنان حتى لا يُستهدف من قبل إسرائيل.

هذا وقد عقدت المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية على تنوّعها قمّة روحية في بكركي بدعوة من المرجعية الدينية المارونية وأدانت القمّة العدوان على لبنان وعلى الشعب الفلسطيني، وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار، وتطبيق القرار 1701 ونشر الجيش في الجنوب، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية[7].

الموقف الشعبي العام:

لا يختلف الموقف الشعبي العام عن مواقف القوى السياسية والمرجعيات الدينية كثيراً، بل هو انعكاس لتلك المواقف أو ربما العكس هو الصحيح. فالمسلمون السنّة بغالبتهم الساحقة يؤيّدون إسناد الشعب الفلسطيني بكافة الطرق والوسائل، ويعتبرون أنّ تصفية القضية الفلسطينية تعني هيمنة وسيطرة إسرائيل على المنطقة كلّها، وبالتالي فإنّ إسناد الشعب الفلسطيني هو في حقيقته نوع من الدفاع عن لبنان والمنطقة، ولذلك تجاوز المسلمون السنّة، ولو مرحلياً، القطيعة أو الجفاء الذي كان قائماً مع حزب الله على خلفية مشاركته في الحرب السورية، ورأوا أنّ الأحداث والتحدّيات المرحلية الحالية تتطلّب ذلك. أمّا الشيعة فلم يجدوا بدّاً من إسناد الشعب الفلسطيني لأنّهم أدركوا أنّ تمكّن إسرائيل من تحقيق نصر على المقاومة الفلسطينية سيغريها (إسرائيل) بتوجيه ضربة قوية لحزب الله وبالتالي إعادة جنوب لبنان (بيئة شيعية بمعظمها) إلى هيمنة وسيطرة الاحتلال. في حين تماهى دروز لبنان مع موقف مرجعيتهم السياسية ممثّلة بوليد جنبلاط، والدينية ممثّلة بمشيخة العقل، ففتحوا بيوتهم ومنازلهم للنازحين من الجنوب دون أن ينخرطوا بالقتال أو المواجهة المباشرة مع الجيش الإسرائيلي.

فيما يتعلّق بالموقف الشعبي المسيحي لم يختلف الأمر عن الموقف الشعبي المسلم، وتماهى مع مواقف الأحزاب المسيحية والمرجعية الدينية المسيحية.

ثالثاً: موقف إسرائيل وقوى دولية من جبهة الإسناد

موقف إسرائيل:

على مدى عام كامل تقريباً تعاملت إسرائيل مع جبهة الإسناد من جنوب لبنان ضمن سياسة الاحتواء بانتظار الانتهاء من معركتها وحربها على غزة بغض النظر عن النتيجة، غير أنّها اعتباراً من الأول من آب 2024 شرعت في تنفيذ خططها للبنان والتي كانت أعدّتها سابقاً وفقاً لما كشفه مسؤولون إسرائيليون بعد ذلك، ووفقاً لما كشفه الميدان إذ بدأت حرباً مفتوحة ضد حزب الله، وعندما حقّق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بعض الإنجازات التكتيكية ومنها على سبيل المثال اغتيال أمين عام حزب الله، ظنّ أنّ اللحظة باتت مهيّئة ومؤاتية لتغيير النظام في لبنان بما يتيح إنتاج نظام في لبنان يكون موالياً لإسرائيل، ومن ثمّ الانطلاق بعد ذلك لتغيير النظام في الشرق الأوسط بشكل عام بما يخدم المصالح الاستراتيجية لإسرائيل دونما اعتبار لمصالح الأصدقاء والحلفاء أو الخصوم[8]. ومن هنا شرعت إسرائيل بحرب تدميرية في لبنان هدفها إخضاع المقاومة اللبنانية وبالتالي إخضاع كلّ المنطقة، غير أنّها بدأت تواجه صعوبات في العمليات العسكرية البرّية، كما وأنّها لم تتمكّن من منع إطلاق الصواريخ نحو الداخل الفلسطيني المحتل حيث الثقل السكاني والاقتصادي الإسرائيلي في حيفا وتل أبيب وغيرهما من المدن.

موقف الولايات المتحدة الأمريكية:

أرسل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مبعوثاً خاصاً، آموس هوكستين، إلى لبنان تحت عنوان البحث مع الجانب اللبناني تخفيف التوتر على جانبي الحدود مع فلسطين المحتلة، وإيجاد حلول سلمية لوقف إطلاق النار وإعادة المستوطنين إلى مستوطناتهم في شمال الأراضي المحتلة، وإعادة سكّان البلدات الجنوبية الحدودية إلى بلداتهم، وانسحاب مقاتلي حزب الله إلى شمال نهر الليطاني بما يعني ابتعادهم عن الحدود قرابة 10 إلى 12 كلم، واتضح فيما بعد أنّ هوكستين كان يشتري الوقت للجانب الإسرائيلي بانتظار أن يحسم الجيش الإسرائيلي المعركة في غزة ومن ثمّ يستدير نحو لبنان. لقد تماهت الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل على مستوى الهدف فيما يتصل بجبهة الإسناد من جنوب لبنان، غير أنّها تخفّت وراء الحلّ الدبلوماسي بانتظار أن يحين موعد استهداف لبنان.

موقف إيران :

بالنسبة لإيران فقد أعلنت دعمها لجبهة الإسناد اللبنانية لقطاع غزة، وعملت على تأمين السلاح والأجواء السياسية التي تسمح باستمرار هذه الجبهة في عملية استنزاف إسرائيل، وكشفت العمليات الميدانية مقتل أحد ضباط الحرس الثوري الإيراني في عملية استهداف واغتيال أمين عام حزب الله، اللواء عباس نيلفروشان. وقد نظرت إيران إلى اغتيال نصرالله على أنّه تهديد لأمنها القومي وهو ما جعلها توجّه ضربة صاروخية كبيرة في الأول من تشرين الأول / أكتوبر إلى قواعد ومواقع عسكرية في داخل الأراضي المحتلة.

رابعاً : السيناريوهات :

في ضوء المعطيات الميدانية والمواجهات البريّة والحملات الجويّة والصاروخية المتبادلة، وفي ضوء موازين القوى الإقليمية وتشابك وتداخل المصالح بين الحلفاء والأصدقاء والخصوم والأعداء، وبعد عام كامل على انخراط المقاومة اللبنانية في إسناد غزة والشعب الفلسطيني، وحديث رئيس الحكومة الإسرائيلية عن تغيير النظام في لبنان وفي المنطقة، يمكن الحديث عن السيناريوهات التالية:

-أن تتمكّن إسرائيل من تحقيق أهدافها بالقضاء على حزب الله وتجريده من سلاحه، لا سيما الصاروخي، وإبعاده عن الحدود إلى ما وراء نهر الليطاني، والقضاء على بنيته العسكرية والسياسية والتنظيمية، وبالتالي النصر عليه، وفي هذه الحالة فإنّ إسرائيل ستشرع في تغيير النظام في لبنان وإنتاج نظام سياسي خاضع لها بشكل كامل، والانتقال بعد ذلك إلى تغيير الشرق الأوسط لإخضاعه لهيمنتها وسيطرتها. غير أنّ حظوظ هذا السيناريو قليلة جدّاً، فحزب الله ما زال ممسكاً بالأرض في الجنوب، ويخوض مواجهات بريّة ناجحة، ويكبّد الإسرائيلي خسائر كبيرة ومتصاعدة، كما وأنّه ما زال يطلق الصواريخ إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكلّ يوم يمرّ والأمور على هذه الحالة تعني خسارة لإسرائيل ونجاح لحزب الله. كما وأنّ إيران تعتبر حزب الله العامود الفقري لمشروعها في المنطقة ولإذرعها المنتشرة، وهي لن تسمح بانكساره حتى لو أدّى ذلك لدخولها معركة مباشرة مع إسرائيل وقد هيّأت لها الأرضية بعد اغتيال رئيس حماس في طهران إسماعيل هنيّة.

-أن تتمكّن المقاومة من إلحاق هزيمة نكراء بالقوات الإسرائيلية عبر صمودها وتصدّيها للقوات التي تحاول التوغّل في لبنان، واستنزاف الجبهة الداخلية الإسرائيلية جراء الضربات الصاروخية الموجّهة والمحدّدة، وبالتالي انهيار الجبهة الإسرائيلية أمام ضغط الجبهة من الخارج، والرأي العام الداخلي من الداخل جراء الاستنزاف والضربات، وفي هذه الحالة ستخضع إسرائيل لشروط المقاومة، وهو ما سينعكس على لبنان بحيث تتمكّن المقاومة من صرف نصرها في الداخل اللبناني لتحصين وجودها ودورها. غير أنّ حظوظ هذا السيناريو أيضاً قليلة جداً، فلا المقاومة الآن لديها القدرة على حسم المعركة بهذه الطريقة، ولا القوى الداعمة لإسرائيل يمكن أن تسمح بذلك حتى لو أدّى ذلك إلى تدخّل مباشر منها.

-استمرار الحرب بهذا الشكل لمدة طويلة دون حسم من أحد الطرفين، وهو ما يعني استنزاف متبادل لكليهما، وهو الأمر الذي لا تتحمّله إسرائيل ولا يتحمّله حزب الله أيضاً، وهذا يستنزف لبنان الرسمي والشعبي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وبالتالي فإنّ حظوظ هذا السيناريو قليلة أيضاً.

-الوصول إلى قناعة بوقف الحرب دون إنهاء الصراع. وهو ما حصل في تفاهم نيسان 1996 وفي تموز 2006، ولكنّ الصورة التي سيستقر عليها وقف الحرب، سيقررها الميدان ومدى ما يمكن أن يحرزه كلّ طرف قبل الوصول إلى القناعة بوقفها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كلّ طرف بدأ يستعمل ما لديه من أوراق قوّة حتى يحرز النصر والفوز أو على أقلّ تقدير أكبر قدر من المكاسب والنقاط الميدانية التي تعزّز حظوظه عند الشروع في وقف النار، وفي هذه الحالة فإنّ لبنان سيكون محكوماً بمزيد من الانتظار والتموضع وبالتالي من حالة المراوحة التي يمكن أن يشهد خلالها حلحلة مرحلية أو انتكاسات كل مدة زمنية.

-توسّع الحرب لتشمل دولاً إقليمية أخرى، خاصة إذا ما تحوّل الردّ الإسرائيلي على الضربة الإيرانية، والردّ الإيراني المنتظر، إلى حرب استنزاف بين الطرفين، أو إلى حرب واسعة بينهما، وهذا السيناريو وإن كان الجميع يحاول الهرب منه لأنّه سيكون كابوساً على كلّ الأطراف وقد يكون من تداعياته أو نتائجه تحوّل الحرب بين إيران وإسرائيل إلى حرب إقليمية بل ربما إلى حرب عالمية، غير أنّ حصول ذلك وارد خاصة إذا جرّ الميدان المتقاتلين إليه. وفي هذه الحالة فإنّ لبنان سيصبح تفصيلاً صغيراً في المشهد العام للمنطقة كلّها وإن انطلقت الشرارة منه.

خامساً: الترجيح والخلاصات

فيما خصّ الترجيحات بين السيناريوهات المطروحة فإنّه لا بدّ من الإشارة أولاً إلى أنّ أيّ متغيّر حتى ولو كان بسيطاً قد يؤثّر على ترجيح كفّة سيناريو على آخر، فكيف إذا ما كان المتغيّر كبيراً وله تأثير واسع، فعندها قد تختلف الأمور وتختلط بشكل كبير، ولكن وفقاً للظروف والمعطيات القائمة حالياً، ووفقاً لما هو معلن من مواقف فإنّ السيناريو الأكثير ترجيحاً يتأرجح بين سيناريو الوصول إلى قناعة بوقف الحرب دون إنهاء الصراع، وبين سيناريو توسّع الحرب جزئياً، مع ميل لديّ إلى سيناريو وقف الحرب وعدم وقف الصراع.

وفيما خصّ الخلاصات، فيمكن الحديث عن أبرزها وهي:

-معركة طوفان الأقصى جعلت إسرائيل تعيش لأول مرّة قلقاً على الوجود، وبالتالي فإنّنا رأينا تصرّفاً غير معهود من قبل في إسرائيل لناحية الحرب الطويلة والأكلاف العالية.

-معركة طوفان الأقصى والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته دقّت المسمار الأول في نعش إسرائيل، وشكّلت بداية حرب التحرير الحقيقية.

-كشفت الحرب على لبنان وفلسطين أنّ إسرائيل ليست سوى قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في المنطقة ولا يمكنها البقاء والعيش فيها إلا بمساعدة وحماية دول الغرب.

-كشفت الحرب عن نوايا إسرائيل الدفينة والعميقة والمتمثّلة بالسعي للهيمنة والسيطرة على المنطقة العربية والإسلامية كلّها كمقدمة للسيطرة والتحكّم بالعالم.

-كشفت الحرب هشاشة النظام العربي وضعفه، وحتى ضعف الحكومات الإسلامية أمام القوّة الأمريكية التي ما زالت تتحكّم بالمشهد في العالم وتؤثّر فيه بشكل كبير.

-لبنان وبقية دول وأقطار المنطقة بنظر إسرائيل والغرب من خلفها ليست سوى ساحات نفوذ وأسواق.

-الشعوب بإمكانها أن ترسي معادلات كثيرة ولكن كلفة ذلك أمام جبروت الآلة الحربية الهمجية والتفكير السادي كبير جدّاً.

* ورقة بحثية من إعداد الكاتب والباحث د. وائل نجم. 

الآراء الواردة في الورقة البحثية تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز". 


الحواشي



[1] - خطاب نصرالله، موقع قناة المنار، https://tinylink.info/LYKf

[2]- قناة الجزيرة، https://tinylink.info/LYfV

[3]- cnn بالعربية https://tinylink.info/OjuV

[4]- الوكالة المركزية https://tinylink.info/LYfY

[5]- الوكالة الوطنية للإعلام ، https://tinylink.info/Ojv7

[6]- قناة الجديد ، https://tinylink.info/Ojvd

[7]- الوكالة الوطنية للإعلام ، https://tinylink.info/LYgf

[8]- قناة سكاي نيوز عربية، https://tinylink.info/LY8c