إنها الحرب
حزيران 23, 2022

حلمي الأسمر

إنها الحرب التي تُشنّ عليك أيها العربي والمسلم من كل الجبهات، برّا وبحرا وجوّا، افتراضيا وواقعيا، تضغط بتوحش على عصبك الحي، فتكاد تُفقدك توازنك، فتهوي من علٍ إلى قاع بلا قاع، فتتشبث بك لعلك تكسب لحظة توازن، لتعيد "برمجة" سقوطك فتعكس حركتك من الأسفل إلى الأعلى، لعلك "تسقط" أو تعلو عكس ما يريدون منك، أو ما يخطّطونه لك. وفي لحظة الاستدارة تلك، تستعيد في لمحة وعيٍ مكثفة مائة عام أو يزيد من استهدافك: حضارة، فردا وأمة، معاشا ومعادا، هوية وعادات يومية، وطنا ومنفى، إنه استهداف كاسح لك ولكل أبناء جلدتك ووطنك الكبير والصغير (والمقمّط بالسرير، حسب تعبير جدّتي!)، هي استباحة مفتوحة بلا أخلاقيات أو قواعد أو قوانين، ما يبدو منها أقلّ بكثير مما يختفي، والهدف الأخير تحويلك أنت وأمتك المليارية إلى سلعة لهم، أو جثة على قيد حياة أكثر مرارة من الموت.

إنها حرب طاحنة تدور رحاها في وجدانك الجمعي، تضغط على عصبك الحي، بل تفرمه فرما، وتسحق عظامك وأنت حي (لا ترزق!) فتحوّلك إلى وقود لآلتهم، يوصلونك إلى حافّة موتٍ تشتهيه وتطلبه فلا تحصل عليه ليحيى المجرم، يرفعونك قليلا من القبر فيُهيأ لك أنك اقتربت من عالم الأحياء، وسرعان ما يلقونك إلى غيابة جبٍّ كلها وحوش فاغرة أفواهها لالتهامك. تصحو من الكابوس فتجد نفسك على قيد حياة بشعة تتمنّى معها العودة إلى كابوسك، فانتازيا واقعية مليئة بملايين التفاصيل التي تشبه دبابيس تنغرس في كل مساحة جسدك ووعيك وعقلك، كأنك تعيش (أو تموت) حلما واقعيا، أو واقعا تخيليا، في منطقة (أو وطن) انعدام وزن، بين الموت والحياة برزخ غير مرئي، فلا أنت حيّ تُرزق ولا ميت تستريح من شرورهم!

من أين تبدأ هذه الحرب، وكيف تنتهي؟ بل كيف تلج إلى مهمة توصيفها أو فهمها، للبحث عن مخرج منها، أو قل الإمساك بطرف خيط الانتصار فيها؟ مهمة تكاد تكون مستحيلة أن تنتقل من التعميم أعلاه إلى التخصيص أدناه، لكن الإطار الذي ينتظم المشهد كله أنك مستهدف شخصا ووطنا وأمة، بل وبشرا من حيث كونك آدميا، فـ"هم" يريدون منك كل شيء، يريدون أن يأخذوك منك، ثم يعيدوك لك حطاما، سرعان ما يجتهدون في إعادة تشكيلك وصناعة وعيك ووجدانك كي تبقى على قيد خدمتهم، كأنك برغيٌّ في مصنع رفاهيتهم. أما من هؤلاء ال"هم" فتحار في حصرهم، لأنهم من الكثرة والتنوّع والتقمّص، بحيث يستعصون على الحصر، ولكن ما يعينك على معرفة بعض وجوههم قدرتك على تشخيص بداية إشعال النار بك، حين تحالف قومك مع أعدائك لإطلاق "رصاصتهم" الأولى على ابن دينك وأمتك، سعيا وراء مملكة عربية حالمة، ونهاية أو (أو بداية على نحو آخر) بحلفٍ آخر يعيد استنساخ الحلف الأول عبر ما يسمّونه حلف قتل "رأس الأخطبوط"، وهو، بشكل أو بآخر، إعادة إنتاج للحلف الأول الذي تم قبل نحو قرن: وضع اليد بيد عدو "كافر" بكل معتقداتك لقتال من يشهد بالوحدانية وينطق بالشهادتين، وما بين الحلفين اللعينين ملايين الحروب والطعنات واللعنات، كلها تستهدفك وتستبيحك وترمي إلى إبقائك في غيبوبة، لا أنت بالميت فتستريح ولا بالحي فتقاوم.

وفي كل مرةٍ شارفت روحك على اليقظة، عاجلوك بطعنةٍ من أخ لك، ارتدى مسوح الوطنية، فوضع يده بيد الشيطان، ونسّق معه أمنيا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا، فـ"طبّع" علاقة علنية معه، بعد أن كانت سرّية، فذبحك ابن دينك باسم الثورة المضادّة، وحماية "المشروع الوطني!" حينا، وباسم "حفظ الأمن الوطني والقومي" حينا آخر، وكل حماياتهم منصبّة على ديمومة الجلوس على الكرسي، وتنفيذ اشتراطاتـ "هم" من سادتهم الجالسين في "بيتهم الأبيض"، وما حوله من بيوت وخرابات!

هل اتضحت الصورة؟ ربما، رغم أنها أكثر تعقيدا من أن تبوح بها دفعة واحدة، ولكن نظرة عامة إلى كل ما حدث، ابتداء من هدم "الخلافة" وضياع فلسطين أو تضييعها، ولعنة كامب ديفيد ووادي عربة مرورا بنكسة مصنوعةٍ بإتقان، وتدمير العراق واليمن وليبيا وسورية ولبنان، ووضع البقية على حافّة الانهيار والحروب الأهلية، وتفكيك جيوش عربية وتحويلها إلى شركات مقاولة و"استثمار" (تبيع الجمبري والجرجير!)، وصولا إلى إبرام ما تسمّى "الاتفاقات الإبراهيمية" وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام منها براء، وتأسيس حلف "رأس الأخطبوط!"، والحبل على الجرّار، فثمّة في جراب القاتل سهام كثيرة مسدّدة إلى قلبك وعقلك ووجدانك، سهام تتنوع ألوانها وفاعلياتها، فقد تأتيك على شكل "فنان" يغنّي بطريقة عبدة الشياطين، أو قائد انقلاب يسحق شعبه، أو أستاذ قانون دستوري برتبة رئيس يعيد إنتاج بلاد شارفت على قطف ثمار ربيع عربي سحق تحت عجلات الثورة المضادّة، وقد تأتيك أيضا على شكل قوانين وخطط عشرية وخمسية ومليونية لبيع مقدّرات بلدك أو بيع جزء من وطنك وخيرات بلادك أو تأجيره، أو الدخول في شراكات اقتصادية، مع عدوك كل همه أن يسحق عظامك وعظام أجدادك، أو إخراج أشراف قومك من الدعاة والمصلحين إلى خارج القانون، ووضعهم في قوائم "الإرهاب" او ملاحقة "جميعة" لتحفيظ القرآن، أو منهجٍ تعليميٍّ "مجدّدٍ" خالٍ من أي قيمة تحضّ على الجهاد الذي اعتبر "عنفا" أو إرهابا ما دمت تحلم بممارسته، أما عنفهم وقتالهم وتوحشهم "هم" فدفاع عن الحضارة وقيم حقوق الإنسان و"الحرية" وبين من يسمونهم "مقاتلي الحرية" و"الإرهابيين" ساحت المفاهيم وأعيد خلط الأوراق والمفاهيم.

إنها الحرب، ولكل حرب مقاومة، فأمةٌ يحمل أبناؤها في صدورهم كلام الله لن تُغلب، وإن وقعت فسرعان ما تقوم، وفي عمر الزمان والشعوب والتاريخ قرن من "الهزيمة" قد يكون محض رمشة عين، أو عاصفة عابرة.

إنها الحرب، وأشرس ما فيها تمييع المفاهيم، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي بتشويه النظافة والطهر، وتزيين الخيانة، وإلباسها لبوس المصلحة الوطنية. وبين هذا وذاك لا نقول لضحايا هذه الحرب الضروس من الناس "الغلابة" الذين يحاولون خداعهم إلا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية لجمهوره: "إذا وجدتموني في صفوف التتار وفوق رأسي مصحف فاقتلوني".

المصدر: العربي الجديد.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".