المُقامِرون بالأردن
نيسان 18, 2025

أسامة أبو ارشيد

يحقّ لأهل الأردن ومحبّيه أن يقلقوا عليه. ليس لأنه يغالب أزمةً اقتصاديةً خانقةً وفقراً مدقعاً وشُحّاً في المياه والمصادر الطبيعية فقط، بل لأنه أيضاً في قلب المخطّطات الإسرائيلية (مدعومةً حالياً بإدارة دونالد ترامب) لحلّ القضية الفلسطينية على حسابه، وتحديداً لناحية تهجير أهالي الضفة الغربية إليه، وكذلك جزء من أهالي قطاع غزّة. ونتيجة الحال الاقتصادية المتردّية في البلد، وحقيقة وقوع الأردن في منطقة تموج بالتقلبات والحروب الداخلية والخارجية، وتربّص بعض "الأشقّاء" به ومناكفتهم إيّاه، وصلت الأجهزة البيروقراطية في الدولة إلى حدٍّ من الإشباع لم تعد فيه قادرةً على امتصاص مزيد من الأيدي العاملة، وهو ما أحدث توتّرات اجتماعية لا تخفى عن أعين المراقبين. ومن ثمَّ، فإن آخر ما يريده الأردن العبث بنسيجه الوطني الداخلي، وإشعال معارك سياسية وأمنية جانبية مع بعض مكوّناته السياسية والاجتماعية الأصيلة، بشكل يؤثّر في الإجماع الوطني فيه، يمنع التصدّي للمؤامرات الخارجية التي يقرّ الجميع بوجودها، بدءاً من رأس الدولة، الملك عبد الله الثاني.

قد يرى بعضهم أن إعلان الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية محمد المومني، الثلاثاء الماضي، اعتقال 16 شخصاً بتهمة التورّط في تصنيع صواريخ ومسيّرات بغرض "إثارة الفوضى والتخريب داخل المملكة"، ونسبتهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، جاء مفاجئاً. لكنّ الحقيقة غير ذلك، فمنذ أشهر وأسابيع والتوتّر يطبع العلاقة بين الجماعة وذراعها السياسي، جبهة العمل الإسلامي، في الشارع والبرلمان. وكان واضحاً منذ البداية أن الدولة تنوي شيئاً ما، خصوصاً وهي تتهم "الإخوان" بالاستقواء عليها بالشارع، والمزاودة عليها في موقفها من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، في حين كان حلفاء النظام في البرلمان يعملون بجدٍّ على تحجيم كتلة نواب جبهة العمل الإسلامي فيه، رغم أنها الكتلة الأكبر عدداً. وهكذا، كان الشيء الوحيد المفقود صاعق التفجير، إلى أن جاءت تصريحات المومني.

أخطر ما في الاتهامات الموجّهة إلى العناصر الـ16 أنهم كانوا منخرطين في "مخطّطات كانت تهدف إلى المساس بالأمن الوطني وإثارة الفوضى والتخريب المادّي داخل المملكة". ومباشرةً، تسابق "خبراء" و"محلّلون" مقرّبون من الدوائر الرسمية إلى الظهور في شاشات التلفزة متّهمين المُعتقَلين بأن هدفهم كان شنَّ هجمات مسلّحة ضدّ أهداف أردنية، زاعمين أن مدى أحد الصواريخ المضبوطة يراوح ما بين ثلاثة إلى خمسة كيلومترات فقط، وهو ما ينفي (بحسب رأيهم) أن يكون مخصّصاً لاستهداف أهداف إسرائيلية. لم يكتف هؤلاء بذلك، بل مارسوا حملةً من التحريض على جماعة الإخوان المسلمين، متّهمين إيّاها بأنها من توفّر البيئة الحاضنة لمثل هؤلاء الشباب. ورغم تأكيد أحد محامي المتّهمين أن هدفهم كان "تهريب السلاح إلى الضفة الغربية وليس المسَّ بالأمن الوطني"، ورغم نفي الجماعة علمها وصلتها بالأمر، وبأنه يندرج في سياق أعمال فردية لدعم المقاومة الفلسطينية، وتأكيدها أن "مصالح الأردن العليا فوق كلّ اعتبار"، لكن حملة التحريض ازدادت ضراوة.

بداية، ثمَّة أمران ينبغي الاتفاق عليهما: الأول، القول إن الإخوان المسلمين (جماعةً وقيادةً) كانوا على علم بمخطّطات المتّهمين أمر لا دليل عليه، بل حتى الحكومة وبيان المخابرات العامّة وأوراق الدعوى لا تزعم ذلك. لكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك إيحاءات في الحبكة الرسمية، إذ كان واضحاً تركيز المتّهمين (في الاعترافات المسجّلة المنسوبة إليهم) في حقيقة انتمائهم إلى "الإخوان". أيضاً، أقصى ما ذهب إليه بعض "المحلّلين" و"الخبراء" القريبين من الدوائر الرسمية اتهام الجماعة بأنها أوجدت بيئةً مواتيةً لوقوع مثل هذه الحوادث عبر خطابها ومظاهراتها الشعبية التي تستبطن، كما يقولون، اتهام النظام الأردني بالتقصير تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة. ثانياً، وعودة إلى مسألة "صاعق التفجير"، فقد كان لافتاً تأكيد أحد محامي المتّهمين أنهم معتقلون منذ ثلاثة أشهر، وليس في يوم إعلانِ الناطق الرسمي للحكومة القضيةَ، ولا حتى قبل ذلك بأيّام وأسابيع. الأكثر أهمية تأكيد الحكومة والأجهزة الأمنية أنها تراقب المتّهمين منذ عام 2021. بمعنى آخر، الكشف عن هذه القضية، وفي هذا التوقيت، كان متعمَّداً في سيناريو مدروس بعناية. تؤكّد هذا مناكفة رئيس مجلس النواب الأردني نواب الجبهة في الأيّام القليلة الماضية.

بغض النظر عن كلّ ما سبق، ثمَّة خطأ قانوني وقع فيه المتّهمون، وينبغي أن يعالج قانونياً. كما ينبغي أن تُكيّف هذه القضية إنسانياً ضمن سياق العدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة، واستفزاز ذلك لكرامة الشباب الأردني والعربي، ونصرتهم وفزعتهم لإخوانهم. بمعنى آخر، لا ينبغي التعامل مع الموضوع كأنّه يستهدف الأردن قصداً، من دون نفي أنه كان من الممكن أن يؤثّر في الأمن القومي الأردني سالباً، لكن ليس بشكل عامد. هذا فارق جوهري ينبغي اعتباره في العقوبة القضائية. الأكثر أهمية ألا يسمح صانع القرار أبداً بأن تتحوّل هذه القضية مبضعاً لتمزيق النسيج الوطني الأردني، وإحداث توتّرات وأزمات سياسية في الدولة، في وقتٍ هي مستهدفة يقيناً، لا شكّاً. ومرّة أخرى، كان الملك عبد الله الثاني قد أشار إلى ذلك بوضوح غير مرّة.

لنوضّح أكثر. في الشقّ السياسي، جماعة الإخوان المسلمين جزء أصيل من تاريخ الأردن، سياسياً واجتماعياً. تعود نشأتهم إلى عام 1946، وهو العام الذي قامت فيه المملكة الأردنية الهاشمية. وكانت الجماعة تحظى بعلاقة طيّبة، إلى حدٍّ معقول (لم تخل من توتّرات بين حين وآخر) مع الملك المؤسّس، عبد الله الأول، وبعده مع الملك حسين. ومع أن العلاقة توتّرت طردياً بشكل أكبر في عهد الملك عبد الله الثاني، لكنها لم تصل إلى القطيعة الكلّية وكسر العظم، على الأقلّ إلى اللحظة. أيضاً، مواقف الجماعة في الدفاع عن الأردن ونظام الحكم فيه معلومة، فهم وقفوا ضدّ المحاولة الانقلابية عام 1957 من بعض الضبّاط القوميين العرب، ورفضوا المشاركة في فتنة أيلول (الأسود) بين قوات الجيش الأردني وفصائل الفدائيين الفلسطينيين. وفي محطّات كثيرة، لعب "الإخوان" دور الضابط لإيقاع الشارع الأردني، كما في انتفاضة الخبز عام 1996. وعلى الصعيد الاجتماعي، مارس "الإخوان" دوماً دوراً مقدّراً في تماسك النسيج الوطني الأردني، ومكوّنيه الأردني والفلسطيني، ولعبوا دوراً مهماً في تعزيز المناعة الوطنية ضدّ عبث العابثين داخلياً وخارجياً. هذا الدور هو أشدُّ ما يحتاج الأردن إليه الآن في خضمّ المؤامرات على هُويَّته وتماسكه.

يقودنا هذا إلى الشقّ الثاني، وهو الأكثر أهميةً والأخطر، ويتعلّق بضرورة الحفاظ على تماسك النسيج الوطني الأردني. مؤسف ذلك الخطاب الإقليمي العنصري النتن الذي لجأ إليه بعضهم في التحريض على المكوّن الفلسطيني برمّته في الأردن، مفترضين أن المعتقلين كلّهم منه (هذه مسألة لا يعلم كاتب هذه السطور دقّتها). هذا ما تريده إسرائيل، وهذا ما تريده أميركا ترامب. الحركة الصهيونية لا ترى في الأردن إلا "وطناً بديلاً" للفلسطينيين، وتعتبر أن "الضفة الشرقية" انتزعتها بريطانيا من "الوطن القومي لليهود" عام 1922. أمّا بريطانيا، فرأت في "الضفة الشرقية"، كما جاء بلسان ممثّلها في الأردن، ورئيس حكومة مؤاب الوطنية عام 1920، السير أليك كيركبرايد، أن "إمارة شرق الأردن... ستكون بمثابة احتياطي الأرض التي ستستخدم في إعادة توطين العرب، متى ما قام الوطن القومي لليهود في فلسطين". وفي العقد الأخير تصاعدت أصوات اليمين الصهيوني بضرورة "تصحيح" الخطأ البريطاني، وهو أمر يؤيّدهم فيه ترامب (راجع مقال الكاتب في صحيفة العربي الجديد، "الأردن في عين العاصفة مجدّداً"، 22/11/2024). آخر ما نريده، بصفتنا أردنيين من شتى المنابت والأصول، أن نفسح مساحةً لمؤامرات الخارج لتمزيق نسيجنا الوطني. آخر ما نريده أن نعطي ذريعةً لذئاب تتظاهر بالشفقة لتعطينا دروساً في "الحقوق المنقوصة" للأردنيين من أصل فلسطيني. نحن نريد الأردن لكلّ أبنائه، معبّراً عنهم بإرادتهم الجمعية، يفديه الجميع بمهجهم وأرواحهم، لا أن يسفك بعضنا دماء بعض، لا قدّر الله.

تبقى أربع مسائل تمرُّ المقالة عليها سريعاً. الأولى، قد تفلح بعض الدوائر الرسمية وأبواق التحريض في كسب المعركة ضدّ الإخوان المسلمين وكسر عظمهم، لكن هذا يقامر باستقرار الأردن وقوته، حتى لو كان ذلك ضمن استحقاقات وطنية وإقليمية قد تكون مقبلةً، والأردن سيكون جزءاً منها. ومن ثمَّ، مثل هذا "النصر" إن تحقّق، تكتيكي، ولكنّه يصبّ في حساب خسارة استراتيجية كبرى للأردن كلّه، عبر إضعاف مناعته الوطنية والداخلية أمام المؤامرات الخارجية. الثانية، تتعلّق بحقيقة أن الوعي الجمعي الأردني، بشتى أصوله ومنابته، يقف مع فلسطين قلباً وقالباً، ولعلّ ما لا يعلمه كثيرون أن أغلب من يقودون الحراك الأردني الداعم لقطاع غزّة هم شرق أردنيون. بل، حتى العشائر الأردنية في قلب دعم إخوانهم في فلسطين، وما حيُّ الطفايلة من ذلك ببعيد. يا ترى هل نسي بعض أبواق الفتنة الإقليمية أن الشهيد ماهر الجازي، منفّذ عملية إطلاق النار في معبر الكرامة (8/9/2024)، متقاعد عسكري أردني من عشيرة الحويطات في معان؟

هذا غيض من فيض، وهو على سبيل المثال. وصدقَ الرسول الأكرم في تكييفه العنصرية حين وصفها بأنها "دعوى الجاهلية"، آمراً بتركها في قوله "دعوها فإِنّها مُنْتِنَةٌ". الثالثة، ينبغي الحذر كلّ الحذر ممن يوصفون في الأردن بـ"كتيبة التدخّل السريع"، من كتّاب وصحافيين و"خبراء" و"محلّلين" و"إسلاميين" و"إخوانيين" سابقين وناقمين ومتزلفين وطالبي رضا وطامحي مناصب وأدعياء وطنية، من الذين لا يضيّعون فرصةً لنفخ الكير إلا وتسابقوا إليها، ولو كان في ذلك إضعاف الأردن وإنهاكه، متذرّعين بحبّه، وما صدقوا. الرابعة، عندما تطيش العقول وتتشوش الحسابات يبقى الأمل أن يتدخّل رأس الدولة و"عقلها الاستراتيجي"، عبد الله الثاني، لضبط الأمور وإعادتها إلى سياقها الطبيعي، وأن يشمل بعطف أبوته بعض شباب أخطأ الوسيلة في سبيل تحقيق غاية نبيلة، ألا وهي الوقوف مع أهلهم في فلسطين المحتلّة ممّن يبادون بيد عدو مجرم (إسرائيل) لا يراعي حرمةً لأحد، وخطره على الأردن لا يقلّ عن خطره على فلسطين.

المصدر : العربي الجديد

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".