هزيمة المشروع الصهيوني في السويداء
تموز 21, 2025

ياسر أبو هلالة

وقف إطلاق النار في السويداء هو إطلاق الطلقة الأخيرة على المشروع الصهيوني التقسيمي في سورية، فبعد أن نجح حكمت الهجري في جرّ السويداء إلى فخّ الفتنة الإسرائيلي، تمكّنت الدولة السورية من وأد الفتنة وهزيمة هذا المشروع، رسالة وصلت بوضوح إلى نتنياهو. فزعة القبائل العربية، بامتدادها العريض في المشرق من الأردن إلى العراق والخليج العربي، لم تكن ضدّ عصابات الهجري حصراً، بقدر ما كانت ضدّ امتدادها الصهيوني. مشهد الانفجارات في قلب ساحة الأمويين في دمشق حرّك ما هو كامن من عداء ضدّ كيان العدوان تجاه جرائمه الحاضرة في السويداء وغزّة، والغابرة على امتداد الصراع، وكان وصف الرئيس السوري أحمد الشرع إسرائيل بـ"الكيان" في خطاب رسمي عدم اعتراف بدولة الاحتلال ورفض لعدوانها.

‏تحدّث الشرع عن الكيان بقوة وتماسك، من دون عنتريات ولا ادّعاءات، وتهديدات جوفاء. وحدّد الوحدة وبناء الدولة هدفاً يسعى العدو إلى منعه، والدولة تبنى بالمواطنة والتماسك، وهو ما يصنع الاستقرار ويحقق الازدهار. خرج في خطابه رجل دولة، يحمل قيم الثورة حرية وكرامة ووحدة ومواطنة، لم ترهبه قوة العدو الغاشمة رغم القصف المدمّر المزلزل، ولم يتورّط في حربٍ بلا نهاية، ووصف إسرائيل بـ"الكيان" لا بالدولة، وبالعدو الساعي إلى تمزيق سورية. ‏خاطب في الدروز وطنيتهم، وعزل المجموعة الإرهابية الانعزالية، موضحاً الغاية: بناء الدولة، وهو ما يحاول الكيان منعه. وقال: "لسنا ممّن يخشى الحرب، لكنّنا قدمّنا مصلحة الشعب على الفوضى، وكان خيارنا الأمثل حماية وحدة الوطن... نحن أبناء هذه الأرض والأقدر على تجاوز محاولات الكيان الإسرائيلي لتمزيقنا، إسرائيل منذ إسقاط النظام تسعى إلى تفكيك سورية، كنا أمام خيار الحرب المفتوحة مع إسرائيل أو فسح المجال لاتفاق فاخترنا حماية الوطن".

التخلّص من الهجري شرط لإنهاء الفتنة، ليس بتصفيته، فهذا سينتج هجريين أسوأ، وإنما بالتخلّص من مشروعه الصهيوني، بتثبيت وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المحتجزين وتطمين كلّ إنسان سوري، درزياً كان أم بدوياً، بأن الدولة له، وهي من تحميه، لا طائفته ولا قبيلته ولا إسرائيل. ‏أخذت القبائل ثأرها، ودخلت السويداء وانتقمت، هل المطلوب أن تُباد السويداء؟ ماذا بعد؟ بمنطق الغزو والثأر مفروض أن تنتهي الفتنة، فكيف بمنطق الدين والدولة والقانون؟ الحلّ وجود الدولة بأجهزتها ومؤسّساتها وبانسحاب كلّ مقاتل ونزع كلّ سلاح. صحيحٌ أن ما تحقّق من ردع في السويداء جاء بفضل فزعات العشائر، التي فرضت توازناً ميدانياً سريعاً، لكن الحسم العسكري يبقى مكلفاً سياسياً واجتماعياً على سورية وشعبها. لولا فزعة القبائل، التي غطت انسحاب الدولة الاضطراري، لفتحت إسرائيل ممرّ داود الرابط بين مشروع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومشروع الهجري، وانتصار الهجري انتصار لنتنياهو، وهزيمته هزيمة لنتياهو. هذا وغيره لا يمنع من التدقيق والتحقيق في كلّ تجاوز من كلّ طرف، بما فيه الدولة، أمّا التغاضي عن العامل الإسرائيلي وتهميشه فهو تواطؤ مكشوف، وصهينة غبية. ولغة العنتريات وإطالة أمد المواجهات تُهدّد استقرار سورية، وتنذر ببوادر حرب أهلية تمتدّ إلى محافظات أخرى، وهو ما تسعى إليه فلول النظام البائد ومليشيات "قسد"، خصوصاً أن حجم الفظائع لا يمكن تخيله، ومن المهم توثيق كلّ جريمة، لكن المحاسبة اليوم عبثية، وغير واردة. يأتي وقتها عندما تثبت مؤسّسات الدولة والقانون والأمن أركانها، وعلى ما خلصت ورقة تقدير الموقف في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات "إن الغوص في تفاصيل مثل "من بدأ؟"، و"من ارتكب الجرائم الأفظع؟" هو نوع من العبث، ودوران في الدوامة ذاتها، وحرف الانتباه عن القضية الرئيسة التي تنتظر الحلّ منذ سقوط النظام، إنها مسألة بناء الدولة الحديثة ومؤسّساتها، دولة المواطنين جميعاً".

يعمل الهجري اليوم على إفشال وقف إطلاق النار، ويرفض حتى دخول وزير الصحّة إلى السويداء، وليس فقط قوى الأمن والجيش. كما يرفض دخول فريق الدفاع المدني الذي اعتاد أداء مهمّته بكلّ شجاعة من دون تمييز، وحرائق الساحل أكبر دليل، وهو يفاوض على مأساة المدنيين، ويأخذهم رهائن متسلحاً بالدعم الإسرائيلي وقدرته على التأثير في الموقف الأميركي.

لقد أفضت التطوّرات، أخيراً، والاتفاق الماضي في السويداء إلى استعادة الدولة السورية زمام المبادرة، وتحوّلت عودتها إلى مطلب دولي وإقليمي واضح، وقد نجحت دمشق في إفشال مخطّط التقسيم وإسقاط مشروع معبر داود، الذي كان يستهدف ربط الجنوب بامتداد "قسد" شرقاً، وثبتت وحدة التراب السوري ومنع خلق أيّ أمر واقع جديد.

على صعيد دولي، كسبت سورية سياسياً موقفاً أميركياً وعالمياً متقدّماً، فيما ظهر ضعف الموقف الإسرائيلي، وتخبّط حساباته أمام صمود الدولة ووعي الشعب. وعربياً وإسلامياً، كان التضامن واسعاً خصوصاً بيان 13 دولة، الذي ضمّ الأردن والخليج ومصر وتركيا، فعبّر عن عزلة الهجري وعن التضامن العالمي مع الدولة السورية. وحقّق وقف إطلاق النار الغاية الأساسية التي سعت إليها الدولة والمتمثّلة في عودة مؤسّساتها إلى محافظة السويداء، بما يعيد تأكيد حضورها السيادي والشرعي في مختلف المناطق، والدور المقبل على قسد، التي أدركت أن لا مناص من دون الالتحاق بالدولة. ونجاح وقف إطلاق النار يتطّلب الفصل بين عصابات الهجري والدروز، تماماً كالفصل بين السُّنّة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ‏لا بدّ من إحياء الزعامات الدرزية الوطنية التاريخية ممثلة للدروز، سلطان باشا الأطرش، كمال جنبلاط، الأمير شكيب أرسلان، الذين لم يكونوا شيوخ عقل، بل زعامات سياسية، وشيوخ العقل لم يكونوا يتدخّلون في السياسة.

يجب أن يُترجم النجاح العسكري سياسياً عبر دخول الدولة لفضّ النزاع، بما يثبت سيادتها ويعيد مؤسّساتها، أمّا الغياب فيُفسَّر عجزاً، ويفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة على وحدة سورية. فالدولة، لا الطائفة ولا القبيلة ولا العرقية هي من تحتكر القوة المنظمة والسلاح في كلّ سورية. هذه البديهية لم تكن في حاجة إلى هذه الدماء كلّها في السويداء لإثباتها. ‏الدولة السورية ليست أقلّ من أيّ دولة لها شرعية كاملة، تحتكر وحدها القوة المنظّمة والسلاح، وتحاسَب إن تعسّفت باستخدام القوة، لتُترَك الدولة تمارس دورها كاملاً غير منقوص، وتحاسب بشكل كامل غير منقوص، أمّا أن يرفض الهجري وجود الدولة بالكامل، ويحاسبها بالكامل، فهذه سماجة وحماقة لا يقرّها عاقل ولا شيخ عقل. فإعلاء قيم الدولة والمواطنة مسار طويل وصعب ومعقّد، يحتاج إلى تضافر كلّ الجهود، مساراً لا قراراً. ‏ليست القبيلة ولا الطائفة بديلاً من الدولة، لتُطوى صفحة الاقتتال وتُفتح صفحة الحوار والتوافق والبناء، وتحتاج السويداء إلى الاستقرار، وهو ما يجذب الاستثمار والازدهار، مثل سورية كلّها، وأن تكون شريكةً لا غريمةً، ولا غنيمةً، وأن تكون ضدّ استهداف أي إنسان سوري بسبب عرقه أو مذهبه أو قبيلته، يعني أن تكون ضدّ إسرائيل التي قامت على إبادة الفلسطيني ولا تزال، وهي تمارس جريمةً متواصلةً بحقّ مليون نازح سوري مهجّر من أرضه، من بينهم رئيس الدولة.

‫ويجب إدانة القتل خارج إطار القانون، بمعزل عن القاتل والقتيل، والدعوة إلى التحقيق والمحاسبة. ف‏دماء الأبرياء التي أُريقت في السويداء في رقبة عصابات الهجري ومن ساندها فرفض وجود الدولة، وأغراه الانفصال بإمارة درزية بدعم إسرائيلي عسكري ومالي. عندما فتك الدواعش بأهلنا في حوض اليرموك لم يستعينوا بإسرائيل، وهي أمام أعينهم. الاستعانة بالعدو لقصف قلب دمشق عارٌ لا بدّ من البراءة منه وممّن اقترفه. الهجري عار على السوريين جميعاً، وليس على الدروز، لا يجوز وصم طائفة بجريرة أحد أبنائها. بالمناسبة الكرد سنّة، لكن "قسد" عميلة لإسرائيل مثل عصابات الهجري. هذا لا يعني أن نَصِمَ الكرد السُّنّة بالعمالة. وبالمناسبة يوجد سنّة ليبراليون، يرون في الهجري "بطلاً" يقف مع العالم المتحضّر في مواجهة "همجية" الدولة السورية، وهؤلاء صهاينة أيضاً، ولا تشفع لهم سنّيتهم.

جولة صراع مع "الكيان" الغاشم خرجت فيها سورية بأقلّ الخسائر. أكّد العدو قوته الغاشمة التي لم تتوقّف عن القتل والتدمير منذ عامين في غزّة، الضربة القاضية كانت لتيّار التطبيع والصهينة، الذي حاول التسلّل إلى صفوف الثورة.

لقد نجح شيخ العقل الهجري في سرقة تاريخ الدروز، حتى بات يُوشك أن يسرق مستقبلهم، فالدروز لم يكونوا يوماً طائفة انعزالية أو ملحقين بمشاريع التقسيم، بل كانوا طليعة الوحدة الوطنية في سورية، ورفضوا إقامة كيان منفصل رغم العروض الاستعمارية. من سلطان باشا الأطرش، إلى زعيم الحركة الوطنية اللبنانية، كمال جنبلاط، مروراً بالأمير شكيب أرسلان، المفكّر الإسلامي العروبي، كانت رموز الدروز ذات امتداد أممي لا طائفي، وذات دور وحدوي لا انقسامي. واليوم، تُستبدَل هذه القامات برجالٍ بلا مشروع ولا كرامة، ارتضوا أن يكونوا أدواتٍ في مشاريع صهيونية تفتيتية، أمثال الهجري ووئام وهاب وأشباههما.

قبل قرن، حين بدأت تتشكّل هُويَّة عربية جامعة بعد سقوط الدولة العثمانية، كانت ولاية حوران تضم دروزاً وبدواً وفلاحين، وسكّاناً من مناطق ما يُعرف اليوم بالأردن وسورية، من دون حواجز. وقد عُيِّن رشيد طليع، الدرزي القادم من جبل العرب، متصرّفاً على لواء حوران أيام الدولة العثمانية، ثمّ أصبح أول رئيس وزراء لإمارة شرق الأردن، التي أسّسها الأمير عبد الله عام 1921. هذا النموذج الذي تجاوز الانتماءات الضيقة، يؤكّد أن الردّ الحقيقي على المشروع الصهيوني التفتيتي هو بإحياء الهُويَّة التاريخية الجامعة لهذه الأرض، لا بتفتيتها على أسس طائفية أو إثنية. لا يعقل بعد مرور مائة عام أن يُعاد تقسيم المنطقة على أسس تُنكر هذا الإرث الوحدوي.

المصدر : العربي الجديد

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".